تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعياً، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره، ويستعد للإنفاق.
التفريق لعدم الإنفاق في هذين القانونين طلاق رجعي إذا كان بعد الدخول، فللزوج أن يراجع زوجته إذا أثبت يساره وقدرته على الإنفاق.
تعريفه وحكمه:
55 – الاستثناء في اللّغة: هو الإخراج بإلاّ أو بإحدى أخواتها، بعضاً ممّا يوجبه عموم سابق، تحقيقاً أو تقديراً، والأوّل هو المتّصل، والثّاني هو المنقطع، والأوّل هو المراد هنا دون الثّاني لدى الفقهاء، ويضاف إلى الأوّل الاستثناء الشّرعيّ، وهو التّعليق على مشيئة اللّه تعالى، أخذاً من قوله سبحانه: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ}. والاستثناء الشّرعيّ – وهو التّعليق على مشيئة اللّه تعالى – مبطل للطّلاق، – أي لا يقع به الطّلاق – لدى الحنفيّة والشّافعيّة إذا استوفى شروطه للشّكّ فيما يشاؤه سبحانه، وخالف الحنابلة والمالكيّة، وقالوا: لا يبطل الطّلاق به – أي يقع به الطّلاق -.
أمّا الاستثناء اللّغويّ بإلاّ وأخواتها فمؤثّر وملغ للطّلاق بحسبه إذا استوفى شروطه، وعلى ذلك لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدةً، طلقت اثنتين فقط، ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ اثنتين طلقت واحدةً فقط، فإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً، وقع الثّلاث، لأنّه إلغاء، وليس استثناء، والإلغاء باطل هنا.
شروطه:
يشترط لصحّة الاستثناء من الطّلاق، سواء أكان استثناءً لغويّاً أم تعليقاً على مشيئة اللّه تعالى، شروط هي:
56 – أ – اتّصاله بالكلام السّابق عليه، أي اتّصال المستثنى بالمستثنى منه، بحيث يعدّان كلاماً واحداً عرفاً، فإن فصل بينهما بكلام أو سكوت لغا الاستثناء، وثبت حكم الطّلاق، فإذا قال لها: أنت طالق، ثمّ قال: إن شاء اللّه تعالى منفصلاً، طلقت، أو قال: أنت طالق اثنتين، ثمّ سكت، ثمّ قال: إلاّ واحدةً وقع اثنتان، ولغا الاستثناء، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً، ثمّ سألها عن أمر، ثمّ قال: إلاّ اثنتين، فإنّها تطلق ثلاثاً، لإلغاء الاستثناء بالكلام الفاصل.
إلاّ أنّه يعفى هنا عن الفاصل القصير الضّروريّ، كالسّكوت للتّنفّس أو إساغة اللّقمة، كما يعفى عن الكلام المفيد المتعلّق بالمستثنى منه، كأن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً يا زانية إلاّ اثنتين، فإنّها تطلق بواحدة، لأنّ لفظة زانية بيان لسبب الطّلاق، وكذلك قوله لها: أنت طالق ثلاثاً بائناً إلاّ اثنتين عند الحنفيّة، فإنّه يقع به واحدة بائنة عندهم، بخلاف: أنت طالق ثنتين رجعيّتين إلاّ واحدةً، فإنّه يقع به اثنتان رجعيّتان، ويلغو الاستثناء لعدم إفادة هذا الفاصل.
57 – ب – نيّة الحالف الاستثناء قبل الفراغ من التّلفّظ في الطّلاق عند المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ، فإن نواه بعده لم يصحّ ويقع الطّلاق بدونه، وفي قول ثان للشّافعيّة إن نواه بعده جاز، وقال الحنفيّة: يصحّ بغير نيّة مطلقاً، ولم أر من نصّ على ذلك من الحنابلة، ولعلّهم مع الحنفيّة في ذلك.
58 – ج – أن يكون الاستثناء بصوت مسموع لنفسه على الأقلّ، فلو كان دون ذلك لم يصحّ الاستثناء، لأنّه مجرّد نيّة، وهي غير كافية لصحّته بالاتّفاق.
59 – د – عدم استغراق المستثنى للمستثنى منه، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً لم يصحّ، لأنّه رجوع وإلغاء، وليس استثناءً.
وهل يجوز استثناء الأكثر ؟ نصّ الجمهور على صحّته، ونصّ الحنابلة على عدم صحّته. إلاّ أنّه إن قال: طالق ثلاثاً إن شاء اللّه تعالى قاصداً الاستثناء متّصلاً لغا طلاقه عند الجمهور، خلافاً للحنابلة لما تقدّم.
وهل يجب تقديم المستثنى منه على المستثنى ؟ نصّ الشّافعيّة والحنفيّة على عدم شرطيّة ذلك، وسوّوا بين أن يقدّم المستثنى أو المستثنى منه، فلو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدةً وقع ثنتان، وإذا قال: أنت إلاّ واحدةً طالق ثلاثاً وقع ثنتان أيضاً، وإذا قال: أنت طالق إن شاء اللّه تعالى، صحّ الاستثناء أو قال: إن شاء اللّه تعالى فأنت طالق فكذلك ما دام أدخل الفاء على ” أنت ” فإن لم يدخلها فقولان، المفتى به منهما: عدم الوقوع.
وهل يجب التّلفّظ بالمستثنى والمستثنى منه ؟ نصّ الحنفيّة على عدم اشتراط ذلك، وعلى هذا إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً، ثمّ كتب متّصلاً: إلاّ واحدةً، وقع اثنتان، ولو كتب: أنت طالق ثلاثاً، ثمّ قال متّصلاً: إلاّ واحدةً وقع اثنتان أيضاً. فإن كتبهما معاً، ثمّ أزال الاستثناء وقع اثنتان فقط، ولا قيمة لإزالة الاستثناء بعد كتابته، لأنّه رجوع عنه، والرّجوع هنا غير صحيح.
60 – هـ – أن لا يكون المستثنى جزء طلقة، فإن استثنى جزء طلقة لم يصحّ الاستثناء، وعلى ذلك إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إلاّ نصف طلقة طلقت ثلاثاً، ولو قال لها: أنت طالق اثنتين إلاّ ثلثي طلقة، طلقت اثنتين أيضاً لدى الجمهور، وهو الصّحيح لدى الشّافعيّة، والثّاني: يصحّ الاستثناء، ويستثنى بجزء الطّلقة طلقة كاملة.
61 – وهل يكون الاستثناء من المستثنى منه الملفوظ دون المملوك ؟ ذكر الحنفيّة ذلك، وذكر الشّافعيّة قولين، الأصحّ منهما: أنّ الاستثناء من الملفوظ كالحنفيّة.
والثّاني: أنّه يعتبر من المملوك، وعلى ذلك فلو قال لزوجته: أنت طالق خمساً إلاّ ثلاثاً طلقت اثنتين عند الحنفيّة والأصحّ من قولي الشّافعيّة، وفي قول الشّافعيّة الثّاني طلقت ثلاثاً، لأنّه يملك عليها ثلاثاً، فلمّا استثنى منه ثلاثاً كان رجوعاً فلغا. وكذلك إذا قال لها: أنت طالق عشراً إلاّ تسعاً، فإنّها تطلق بواحدة على القول الأوّل، وبثلاث على القول الثّاني. وللمالكيّة في ذلك قولان: الرّاجح منهما اعتبار الملفوظ فيستثنى منه، ومقابل الرّاجح اعتبار المملوك، فلو قال لها: أنت طالق خمساً إلاّ اثنتين، فعلى الرّاجح يلزمه ثلاث، وعلى المرجوح يلزمه واحدة.
الإنابة في الطّلاق
62 – الطّلاق تصرّف شرعيّ قوليّ، وهو حقّ الرّجل كما تقدّم، فيملكه ويملك الإنابة فيه كسائر التّصرّفات القوليّة الأخرى الّتي يملكها، كالبيع والإجارة... فإذا قال رجل لآخر: وكّلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلّقها عنه، جاز، ولو قال لزوجته نفسها: وكّلتك بطلاق نفسك، فطلّقت نفسها، جاز أيضاً، ولا تكون في هذا أقلّ من الأجنبيّ.
وبيان المذاهب فيما يلي:
أوّلاً: مذهب الحنفيّة:
63 – إذن الزّوج لغيره في تطليق زوجته ثلاثة أنواع: تفويض وتوكيل ورسالة.
وقد ذكر الحنفيّة للتّفويض ثلاثة ألفاظ، وهي: تخيير، وأمر بيد، ومشيئة.
فلو قال لها: طلّقي نفسك، واختاري نفسك، وأمرك بيدك، فالأولى يقع الطّلاق بها صريحاً بدون نيّة، واللّفظان الآخران من ألفاظ الكناية، فلا يقع بهما الطّلاق بغير نيّة.
كما يكون التّفويض عندهم بإنابة الزّوج أجنبيّاً عنه بطلاق زوجته إذا علّقه على مشيئته، بأن قال له: طلّق زوجتي إن شئت، فإن لم يقل له: إن شئت، كان توكيلاً لا تفويضاً. هذا، وبين التّفويض والتّوكيل عند الحنفيّة فروق في الأحكام من حيثيّات متعدّدة، أهمّها:
أ – من حيث الرّجوع فيه، فليس للزّوج الرّجوع في التّفويض، لأنّه تعليق على مشيئة، والتّعليق يمين لا رجوع فيها، فإذا قال له: طلّق زوجتي إن شئت، أو قال لزوجته: اختاري نفسك ناوياً طلاقها، لم يكن له أن يعزلها، أمّا الوكيل فله عزله مطلقاً ما دام لم يطلّق.
ب – من حيث الحدّ بالمجلس: فللوكيل أن يطلّق عن موكّله في المجلس وغيره، ما لم يحدّه الموكّل بالمجلس أو زمان ومكان معيّنين، فإن حدّه بذلك تحدّد به، أمّا التّفويض فمحدود بالمجلس فإذا انقضى المجلس لغا التّفويض، ما لم يبيّن له مدّةً، أو يعلّقه على مشيئته، فإن بيّن مدّةً تحدّد بالمدّة المبيّنة، كأن قال لها: طلّقي نفسك خلال شهر، أو يوم، أو ساعة، أو طلّقي نفسك متى شئت، فإن قال ذلك تحدّد بما ذكر، لا بالمجلس.
ج – من حيث نوع الطّلاق الواقع به، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ التّفويض إذا كان بلفظ صريح كقوله لها: طلّقي نفسك فطلّقت، وقع به الطّلاق رجعيّاً، وإن قال لها: اختاري نفسك، فقالت: اخترت نفسي، وقع به بائناً، هذا إذا نويا الطّلاق، وإلاّ لم يقع به شيء لأنّه كناية.
د – من حيث تأثّره بجنون الزّوج، فإذا فوّض الزّوج زوجته أو غيرها بالطّلاق، ثمّ جنّ، فالتّفويض على حاله، وإن وكّله بالطّلاق فجنّ بطل التّوكيل، لأنّ التّفويض تمليك، وهو لا يبطل بالجنون، على خلاف التّوكيل، فهو إنابة محضة، وهي تبطل بالجنون.
هـ – من حيث اشتراط أهليّة النّائب، فإنّ التّفويض يصحّ لعاقل ومجنون وصغير، على خلاف التّوكيل، فإنّه يشترط له أهليّة الوكيل، وعلى هذا فلو فوّض زوجته الصّغيرة بطلاق نفسها فطلّقت، وقع الطّلاق، ولو وكّل أخاه الصّغير بطلاقها، فطلّقها لم يصحّ، فلو فوّضها بالطّلاق، وهي عاقلة، ثمّ جنّت فطلّقت نفسها، لم يصحّ عند الحنفيّة استحساناً.
ثانياً: مذهب المالكيّة:
64 – النّيابة في الطّلاق عند المالكيّة أربعة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك ورسالة. فالتّوكيل عندهم هو: جعل الزّوج الطّلاق لغيره – زوجةً أو غيرها – مع بقاء الحقّ للزّوج في منع الوكيل – بعزله – من إيقاع الطّلاق، كقوله لها: أمرك بيدك توكيلاً.
والتّخيير عندهم هو: جعل الطّلاق الثّلاث حقّاً للغير وملكاً له نصّاً كقوله لها: اختاريني أو اختاري نفسك.
والتّمليك هو: جعل الطّلاق حقّاً للغير وملكاً له راجحاً في الثّلاث، كقوله لها: أمرك بيدك، وبين هذه الثّلاثة اتّفاق واختلاف على ما يلي:
أ – فمن حيث جواز الرّجوع فيه، في التّوكيل للزّوج حقّ عزل وكيله بالطّلاق مطلقاً، سواء أكان الوكيل هو الزّوجة أم غيرها، إلاّ أن يتعلّق به حقّ للزّوجة زائد عن التّوكيل، كقوله لزوجته: إن تزوّجت عليك فأمرك بيدك، أو أمر الدّاخلة عليك بيدك، فإنّه لا يملك عزلها في هذه الحال، لتعلّق حقّها به، وهو دفع الضّرر عنها، ولولا ذلك لأمكنه عزلها. فإن فوّضه بالطّلاق تخييراً أو تمليكاً لم يكن له عزل المفوّض حتّى يطلّق أو يردّ التّفويض.
ب – ومن حيث تحديده بمدّة، فإن حدّد الزّوج النّيابة بأنواعها بالمجلس تحدّد مطلقاً، وإن حدّدها بزمان معيّن بعد المجلس لم تقتصر على المجلس، ولكن إن مارس النّائب حقّه في الطّلاق خلال الزّمن المحدّد طلقت، وإلاّ فهو على حقّه ما دام الزّمان باقياً، إلاّ أن يعلم القاضي بذلك، فإن علم به، فإنّه يحضره ويأمره بالاختيار، فإن اختار الطّلاق طلقت، وإلاّ أسقط القاضي حقّه في ذلك، ولا يمهله ولو رضي الزّوج بالإمهال، وذلك حمايةً لحقّ اللّه تعالى، فإن أطلق ولم يحدّده بالمجلس ولا بزمن آخر، فللمالكيّة روايتان:
الأولى: يتحدّد بالمجلس كالحنفيّة، والثّانية: لا يتحدّد به.
ج – من حيث عدد الطّلقات، إن كان التّفويض تخيّراً مطلقاً – وقد دخل بزوجته – فللمفوّضة إيقاع ما شاءت من الطّلاق، واحدةً واثنتين وثلاثاً، وإن كان لم يدخل بها، أو كان التّفويض تمليكاً، فله منعها من أكثر من واحدة، بشروط ستّة، إن توفّرت لم يقع بقولها أكثر من واحدة، وإن اختلّت وقع ما ذكرت.
وهذه الشّروط هي:
أ – أن ينوي ما هو أقلّ من الثّلاث، فإن نوى واحدةً لم تملك بذلك أكثر منها، فإذا نوى اثنين ملكتهما ولم تملك الثّلاث.
ب – أن يبادر للإنكار عليها فور إيقاعها الثّلاث، وإلاّ سقط حقّه ووقع ثلاث.
ج – أن يحلف أنّه لم ينو بذلك أكثر من العدد الّذي يدّعيه، واحدةً أو اثنتين، فإن نكل قضي عليه بما أوقعت، ولا تردّ اليمين عليها.
د – عدم الدّخول بالزّوجة إن كان التّفويض تخيّراً، وإلاّ وقع الثّلاث عليه إن أوقعها مطلقاً.
هـ- أن لا يكرّر التّفويض، فإن كرّره بأن قال لها: أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك، لم يقبل اعتراضه على طلاقها الثّلاث، إلاّ أن ينوي بالتّكرار التّأكيد، فيقبل اعتراضه.
و- أن لا يكون التّفويض مشروطاً عليه في العقد، فإن شرط في العقد ملكت الثّلاث مطلقاً. فإن خيّرها ودخل بها فطلّقت نفسها واحدةً فقط، لم تقع وسقط تخييرها، لأنّها خرجت بذلك عمّا فوّضها، وقد انقضى حقّها بإظهار مخالفتها، فسقط خيارها في قول، وفي قول آخر لم يسقط بذلك خيارها.
ثالثاً: مذهب الشّافعيّة والحنابلة:
65 – أجاز الشّافعيّة والحنابلة للزّوج إنابة زوجته بالطّلاق، كما أجازوا له إنابة غيرها به أيضاً، فإن أناب الغير كان توكيلاً، فيجري عليه من الشّروط والأحكام ما يجري على التّوكيل من جواز التّقييد والرّجوع فيه.
وللزّوج تفويض طلاقها إليها، وهو تمليك في الجديد عند الشّافعيّة فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور، وفي قول توكيل، فلا يشترط فور في الأصحّ، وعلى القول بالتّمليك في اشتراط قبولها لفظاً الخلاف في الوكيل، والمرجّح عدم اشتراط القبول لفظاً.
وعلى القولين – التّمليك والتّوكيل – له الرّجوع عن التّفويض.
ولو قال لزوجته: طلّقي ونوى ثلاثاً، فقالت: طلّقت ونوتهنّ، وقد علمت نيّته، أو وقع ذلك اتّفاقاً فثلاث، لأنّ اللّفظ يحتمل العدد، وقد نوياه.
وإذا نوى ثلاثاً ولم تنو هي عدداً، أو لم ينويا، أو نوى أحدهما وقعت واحدةً في الأصحّ. وعند الحنابلة: من قال لامرأته: أمرك بيدك فهو توكيل منه لها بالطّلاق ولا يتقيّد ذلك بالمجلس، بل هو على التّراخي لقول عليّ رضي الله عنه، ولم يعرف له مخالف في الصّحابة، فكان كالإجماع.