لا تنتهي حياة النجم بمجرد اطفائه ، فعندما ننظر إلى سماء الليل بعيننا المجردة نراها مرصّعة بألاف النقاط البيضاء التي هي في أغلبها نجوم تشبه الشمس . على الرغم من أن هذه الحقيقة واضحة للجميع اليوم، تختلف النجوم الناشئة كثيرا من وجهة كتلتها فمعظمها يمتلك كتلة قريبة من كتلة الشمس التي تعتبر واحد من أكثر من مائة ألف مليون نجم في مجرتنا. كما يحوي الكون بلايين المجرات، بعضها اصغر من مجرتنا وبعضها أكبر، وكلها تحوي نجوما بأعداد تعد بالبلايين تلك الأعداد العظيمة من النجوم نجد بينها نجوما صغيرة أصغر من الشمس – ربما بكتلة 1و0 كتلة شمسية – وأخرى عظيمة الكبر تصل كتلتها إلى نحو 200 كتلة شمسية ، وبالتالي فهي تختلف فيما بينها من وجهة درجة الحرارة ودرجة اللمعان واللون وما يحدث في داخلها من عمليات نووية واندماج للعناصر، وكذلك بمقدار طول عمر كل منها ، نجم مثل شمسنا تتطور في البدء كنجم أبيض ساطعا، نشأت من سحب غازات وغبار كوني، وحاليا بعد 5و4 مليار سنة من نشأتها أصبح لونها أصفر برتقالي، وتنتهي كنجم أحمر باهتا متضخما (عملاق أحمر). ويقدر عمر الشمس الكلي منذ البداية حتى تصل إلى مرحلة العملاق الأحمر ثم تتحول إلى قزم أبيض بنحو 10 مليارات من السنين، فهي حاليا في أواسط عمرها. وكما نرى في الجدول، نجد أن عمر نجم كبير كتلته أكبر 60 مرة من كتلة الشمس مثلا فلا يبلغ عمره الكلي سوى نحو 3 ملايين سنة فقط ؛ ذلك لأن حرارة باطنه تكون عالية جدا تصل إلى عدة بلايين درجة كلفن بحيث يستهلك وقوده بسرعة في التالي نصف معلوماتنا الفلكية عن تطور النجوم على اختلاف احجامها من بعد تجمع كتلتها المبدئية.
وفي أعقاب اقتراح مفكّر عصر النهضة جيوردانو برونو (Giordano Bruno) في نهاية القرن السادس عشر، بأن النجوم في السماء هي أجسام مشتعلة مثل الشمس. لم يكن برونو هو الأول الذي اقترح هذا بل سبقه بعض الفلاسفة اليونانيون، مثل ديمقريطس، والمسلمون، مثل فخر الدين الرازي ، وبقي مصدر الطاقة التي تُشْعل النجوم غير واضحا حتى بداية القرن العشرين حين تم اكتشاف الطاقة الذرية ونظرية أينشتاين النسبية الخاصة. في عام 1920 اقترح آرثر إدينجتون (Arthur Eddington) بأن الطاقة النووية هي المسؤولة عن اشعاع النجوم بواسطة تحويل الهيدروجين إلى هيليوم. لم يكن اقتراح إدنجتون سوى محض تخمين في الاتجاه الصحيح، لكنه لم يرتقِ إلى مستوى نظرية واضحة وذلك لأن في حينه كان فهم الطاقة النووية ما زال في بدايته. كان على النظرية التفصيلية لاشتعال النجوم بأن تنتظر عشرين عاما أخرى حتى ينضج فهمنا لهذه الطاقة وإمكانياتها، وذلك حين نشر هانس بيتي (Hans Bethe) عام 1938 مقالين حول عملية تحويل الهيدروجين إلى هيليوم داخل النجوم. من بعد هذا بسنوات، نشر فريد هويل (Fred Hoyle) سلسلة من الأعمال امتدت من عام 1946 حتى عام 1957، فسر بها هو وزملاؤه كيفية نشوء باقي العناصر مثل الكربون والأوكسجين في النجوم.
المحتويات
لا تنتهي حياة النجم بمجرد اطفائه
منذ تلك الأعمال الرائدة نضج فهمنا لمبنى النجوم وتطورها بشكل كبير جداً، بحيث أصبحنا نعرف بشكل دقيق مبناها الداخلي وطول حياتها، وحجمها، ولونها، وكيف تموت، وما إلى ذلك من خصائصها الفيزيائية. المذهل في الأمر أننا أصبحنا نعرف خواص مركز الشمس أكثر بكثير مما نعرفه عن خواص مركز الكرة الأرضية. ويعود هذا في الأساس إلى أن النجوم هي أجسام بسيطة نسبيا.
هناك عدة صفات تحدد مجريات حياة النجم، لكن أهمها من دون منازع هي كتلته، فهي التي تحدد حرارته، وطول عمره، وكيف سوف ينهي حياته. لهذا السبب نستطيع أن نقسم النجوم إلى مجموعتين واضحتين، الأولى هي النجوم العادية (الخفيفة)، وتكون كتلتها أصغر من 8 أضعاف كتلة الشمس، والثانية هي النجوم الثقيلة التي تكون كتلتها أكبر من ذلك.
إذن، النجوم هي كرات ضخمة ومضيئة من الغاز الذي يعيش في حالة توازن بين قوتين؛ الأولى هي قوة الجاذبية التي تشدّه إلى المركز، والثانية هي القوة الناتجة عن الضغط باتجاه الخارج الذي ينبثق عن الاشتعال النووي الذي يحدث في مركز النجم، والذي هو مصدر حرارته. في هذا المقال سوف أصف مبنى النجوم وتطورها وكيف تنتهي حياتها.
دورة حياة الشمس
الاشتعال النووي الذي يحدث في نواة النجم هو مصدر طاقته، إذ إنه يحول جزءا من كتلة العناصر المتفاعلة في نواته (مثل الهيدروجين حين يتحول إلى هيليوم) إلى طاقة تتحرر على شكل فوتونات. لكن الكثافة العالية للمادة داخل نواة النجم تعيق خروج الفوتونات إلى الفضاء نتيجة اصطدامها المستمر بجسيمات أخرى، بحيث يستهلك خروج هذه الفوتونات من قلب النجم إلى سطحه الخارجي وقتا طويلا جدا. وتتدفق الحرارة الهائلة من داخل النجم إلى الخارج بواسطة عمليات مختلفة تحدد مبنى النجم الداخلي.
لنأخذ على سبيل المثال نجمنا، الشمس. الطاقة التي ينتجها التفاعل النووي الاندماجي في داخل الشمس تجعل درجة حرارة مركزها تقارب الـ 15 مليون درجة مئوية. وتستهلك الفوتونات التي تنتجها التفاعلات النووية في مركز الشمس حوالي الـ 5000 آلاف عاما للخروج إلى الغلاف الخارجي للشمس (هذا مقابل الـ 8 دقائق و20 ثانية التي يأخذها الضوء ليقطع مسافة الـ 150 مليون كيلومتر بيننا وبين الشمس)، وحين تصل الفوتونات إلى سطح الشمس تكون قد بردت لتصبح درجة حرارتها حوالي الـ 6000 درجة مئوية.
في مركز مبنى الشمس توجد النواة التي يتم فيها الاشتعال النووي، ونصْف قطرها يعادل 150 ألف كيلومتر. ثم نرى المنطقة المعروفة باسم منطقة الإشعاع (Radiation Zone) التي تنتقل بها الطاقة الصادرة عن نواة الشمس إلى المناطق الخارجية منها، بواسطة الأشعة، والتي تمثلها الأسهم ذات اللون الأزرق السماوي في الشكل، وسُمك هذه المنطقة يعادل الـ 300 ألف كيلومتر. ثم هناك منطقة الحمل الحراري (Convection Zone) التي تنتقل بها الحرارة من الداخل الى الخارج بواسطة اختلاط الغاز الحار الداخلي في هذه المنطقة مع الغاز البارد نسبيا في الجزء الخارجي منها، ويمَثّل هذا الاختلاط الأسهم البيضاوية السوداء المبينة في الشكل رقم 1، وسُمْكُ هذه المنطقة يعادل الـ 200 ألف كيلومتر. والحمل الحراري هو إحدى الطرق الفيزيائية الهامّة لنقل الحرارة بشكل عام، فمثلا هي الطريقة التي تنتقل بها الحرارة في قدر الطبخ عندما يعلو الماء الساخن من قاع القدر إلى أعلاه ليستبدل الماء البارد؛ أو كما ينتقل الهواء الساخن إلى أعلى عندما ندفئ غرفةٍ ما ليحمل معه الحرارة ويوزعها على باقي أجزاء الغرفة. أما المنطقة الصفراء الدقيقة، المسماة بالغلاف الضوئي (Photosphere)، فهي المنطقة الأساسية التي نراها من الشمس، تتحرر منها فوتونات الضوء لتهرب إلى الفضاء الفسيح، وهذه الطبقة هي أرقّ طبقات الشمس وسُمكها حوالي الـ 500 كيلومتر فقط. أما المنطقة الأخيرة التي تظهر في الشكل فهي منطقة الهالة الشمسية (Solar Corona) وهي مكونة من غازات متأينة تحيط بالشمس وهي منطقة سميكة جدا، أذ قد تصل إلى ملايين الكيلومترات، وهي في الحقيقة تصل إلينا لكنها تصبح ضعيفة جدا عندما تصلنا، ويحمينا الغلاف المغناطيسي للكرة الأرضية مما تبقى منها من جسيمات ضارة. هناك طبقة أخرى للشمس لم أبيّنها في هذا الشكل مثل الغلاف اللوني (Chromosphere) الذي يشكل طبقة صغيرة نسبيا تقع خارج الغلاف الضوئي.
تبدأ حياة النجم من:
تقسيم الطبقات هذا ينطبق على مبنى باقي النجوم أيضا، ولكن مع اختلاف في كبر وموقع كل طبقة. ففي النجوم الصغيرة مثلا (أصغر من نصف كتلة الشمس) تكون منطقة الإشعاع صغيرة لا تذكر، أي أن الحرارة تنتقل من نواة النجم إلى سطحه الخارجي بواسطة الحمل الحراري فقط. أما في النجوم الكبيرة (أكبر من الشمس بـ 1.5 مرة على الأقل) فتقع منطقة الحمل الحراري داخل منطقة الإشعاع (بعكس حالة الشمس)، بحيث تكون منطقة الإشعاع في هذه النجوم أكبر بكثير منها في الشمس. هذا بالطبع لأن الطاقة الصادرة عن نواة النجوم ذات الكتلة الصغيرة هي أقل بكثير من الطاقة المنبثقة عن النجوم ذات الكتلة الكبيرة، مما يغير مبنى طبقاتها. إضافة إلى هذا ففي حالة النجوم ذات الكتلة الكبيرة على الحرارة أن تخترق كمية أكبر من المادة حتى إلى تصل الى منطقة الغلاف الضوئي. هذه العوامل تحدد مبنى الطبقات المختلفة في النجوم عامة. علينا أن نتذكر بأن هناك أيضا أنواعا أخرى من “النجوم” وهي تمثل المراحل المختلفة التي يمر بها النجم العادي خلال عملية موته وانتهاء حياته، كقزم أبيض، أو نجم نيوتروني، الخ.
تكون العناصر
لم ينتج الكون في بدايته أيا من العناصر ما عدا الهيدروجين والهيليوم ونظائرهما، وقليلا جدا من الليثيوم، إذ أن باقي العناصر تَصنعها النجوم. يحدث ذلك من خلال عملية الاندماج النووي للعناصر الخفيفة التي ينتج من خلالها عناصر أثقل، كالكربون والأكسجين. وعندما تندمج العناصر الخفيفة نوَوِيّا ببعضها البعض تنتج طاقة، وذلك حتى تصل إلى عنصر الحديد. بعد هذا لا تنتج التفاعلات الاندماجية طاقة بل على العكس تستهلكها، لهذا لا تُنتج التفاعلات الاندماجية النووية في بطون النجوم كل العناصر، بل فقط تلك التي تنتج طاقة خلال اندماجها مع بعضها البعض، أي كل العناصر الخفيفة حتى نصل إلى عنصر الحديد. هذا وسوف أذكر كيف تتكون العناصر الأثقل من الحديد لاحقا في المقال.
لكي يتكوّن النجم ويبدأ بالاشتعال النووي عليه أن يكون أكبر من كتلة معينة. وذلك لكي تتغلب البروتونات، ذات الشحنة الكهربائية الموجبة، الموجودة في مركز هذا النجم على قوى التنافر الكهربائية فيما بينها، ولتقترب من بعضها البعض بشكل كاف لكي تبدأ بالاندماج وتحويل الهيدروجين إلى هيليوم، وذلك بفضل ظاهرة النفق الكمّي (Quantum Tunneling) التي ذكرتها في مقال “نظرية الكمّ وطبيعتها العجيبة”. تحصل هذه العملية عندما تصل الحرارة في مركز هذا النجم إلى مليون ومائة ألف درجة مئوية تقريبا، وهذا يتطلب أن تكون كتلة النجم حوالي الـ 0.08 من كتلة الشمس على الأقل. أي أن كرة غاز ذات كتلة أصغر من ذلك لن تشتعل، بل تبقى كرة غازية سابحة في الفضاء، مثل كوكب المشتري مثلا.
على ماذا تعتمد دورة حياة النجم
خلال المرحلة الأولى من حياة النجم يتم تحويل الهيدروجين في نواته إلى هيليوم. لكن عندما ينتهي الهيدروجين يتوقف هذا الاشتعال النووي، وقد يحدث عندها إمكانية واحدة من اثنتين؛ الإمكانية الأولى تحدث عندما تكون كتلة النجم صغيرة، بحيث تتوقف عملية الإشتعال وتبدأ نواة النجم في السقوط على نفسها حتى تصبح كثافتها عالية جدا لدرجة أن ضغط الإلكترونات يوازن قوة الجاذبية ويوقف إنهيار النواة على نفسها، وضغط الإلكترونات هو ضغط من نوع خاص، سأعود إليه بعد قليل. في هذه الحالة، تبدأ الطبقات الخارجية للنجم بالانتفاخ رويدا رويدا وتصبح حمراء لأنها تبرد نتيجة هذا الانتشار، لهذا يظهر لنا النجم على شكل ما يسمى عملاق أحمر (Red Giant)، الذي يستمر بالانتشار والبرود حتى يكون سديما كوكبيا (Planetary Nebula). أما نواة هذا النجم فتتحول إلى كرة صغيرة تسمى بالقزم الأبيض (White Dwarf) بحيث تتوازن قوة الجاذبية فيها والتي تشد الغاز إلى المركز مع ضغط الإلكترونات.
دورة حياة النجوم pdf
أما الإمكانية الثانية فتحدث إذا كانت كتلة النجم أكبر قليلا، عندها ينكمش النجم قليلا حتى ترتفع درجة حرارة مركزه بشكل كافٍ لكي يبدأ تفاعلا نوويّا اندماجيّا جديدا، يتحول من خلاله الهيليوم إلى كربون. يُنْتج هذا التفاعل ضغطا كافيا لوقف انهيار النجم بتأثير قوة الجاذبية، بحيث يخلق توازنا جديدا بحيث يبقى النجم في حالته العادية لوقت أطول قليلا. لكن عندما ينتهي الهيليوم يتوقف التفاعل وإنتاج الطاقة وبالتالي الضغط الذي يقاوم الجاذبية، عندها يتحول النجم إلى عملاق أحمر ونواته إلى قزم أبيض، كما ذكرنا أعلاه. لكن إذا كانت كتلة النجم أكبر بقليل ينكمش النجم قليلا وترتفع درجة الحرارة بشكل كافي ليبدأ تفاعلاً نووياً جديدا يتحول به الكربون إلى أكسجين. يُنتِجُ هذا التفاعل بدوره ضغطا كافيا لوقف انهيار النجم وخلق توازن جديد، وهكذا دواليك حتى نصل إلى نجوم ذات كتلة كافية لإشعال تفاعلات نووية تنتج نواة عنصر الحديد. حينها تتحول نواة النجم إلى نواة من الحديد. هذه العملية تتوقف هنا، وذلك لأن إنتاج العناصر الأثقل من الحديد بواسطة الاندماج لا يصدر طاقة بل بالعكس يستهلكها. لهذا، عندما ينتهي التفاعل النووي الذي يُنتج الحديد لا يستطيع أي تفاعل نووي آخر بأن يوقف الانهيار، بل قد توقفه قوى أخرى سنذكرها بعد قليل.
دورة حياة النجم
إذن فالكربون الذي هو العنصر الأساس في المواد العضوية التي تُرَكِّبُنا، والأكسجين الذي نتنفسه، والنيتروجين، والكلور، والسيليكون، وغيرها من العناصر الأساسية التي نحتاجها، تُنتِجُها النجوم خلال اشتعالها. هذه الحقيقة هي لربما من أجمل الحقائق العلمية قاطبة، فهي ببساطة تقول بأن كل ذرة في جسمنا، باستثناء الهيدروجين (الهيليوم عنصر خامل لا يتفاعل كيميائيا مع شيء)، كانت في وقت ما في نواة نجم ما. إذ أننا نحن وجميع الكائنات الحية أبناء النجوم، التي بتطورها تمهد الطريق لوجودنا وتسمح ببقائنا أكثر مما كان من الممكن أن نتخيل. فالنجوم تزودنا بالطاقة التي نحيا بفضلها، وبالعناصر التي تُكوِّنُنا، وكما سنرى لاحقا، فهي خلال دورة حياتها وموتها تصنع أيضا العناصر الثقيلة (الأثقل من الحديد)، بل وأكثر من ذلك فنحن نرى بشكل واضح اليوم، وذلك عندما نرصد المادّة البَيْن النجمية (أي الغاز المتواجد بين النجوم)، الكثير من المواد العضوية التي تتكّون منها الحوامض الأمينية، وهي حجارة الأساس للدي-أن-إيه الذي يملك المفتاح للغز الحياة. أي أن المواد التي تطلقها النجوم حين تموت هي حجر الأساس لنشوء الحياة (أنظر\ي مقال”الحياة في الكون”الذي نشرته سابقا).