قال الله تعالى : “وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ”
تفسير معنى قوله تعالى 🙁 وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ) ؟
يقول تعالى ذكره: وأصبح الذين تمنَّوا مكانه بالأمس من الدنيا, وغناه وكثرة ماله, وما بسط له منها بالأمس, يعني قبل أن ينـزل به ما نـزل من سخط الله وعقابه, يقولون: ويكأنّ الله .
اختلف في معنى ( وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ) فأما قَتادة, فإنه رُوي عنه في ذلك قولان: أحدهما ما:حدثنا به ابن بشار, قال: ثنا محمد بن خالد بن عثمة, قال: ما حدثنا سعيد بن بشير, عن قَتادة, قال في قوله: ( وَيْكَأَنَّهُ ) قال: ألم تر أنه.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة ( وَيْكَأَنَّهُ ) أولا ترى أنه.
وحدثني إسماعيل بن المتوكل الأشجعي, قال: ثنا محمد بن كثير, قال: ثني معمر, عن قَتادة ( وَيْكَأَنَّهُ ) قال: ألم تر أنه.
والقول الآخر: ما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قَتادة, في قوله: ( وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) قال: أو لم يعلم أن الله ( وَيْكَأَنَّهُ ) أو لا يعلم أنه.
وتأول هذا التأويل الذي ذكرناه عن قَتادة في ذلك أيضا بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة, واستشهد لصحة تأويله ذلك كذلك, بقول الشاعر:
ســـألَتانِي الطَّــلاقَ أنْ رأتــانِي
قَــلَّ مــالي, قَــدْ جِئْتُمـا بِنُكْـرِ
وَيْكـأن مَـنْ يَكُـنْ لَـهُ نشـب يُـحْ
بَـبْ وَمـن يَفْتَقِـرْ يعِش عَيْشَ ضَـرّ , وقال بعض نحويي الكوفة: ” ويكأنّ” في كلام العرب: تقرير, كقول الرجل: أما ترى إلى صُنع الله وإحسانه، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابننا؟ فقال: ويكأنه وراء البيت. معناه: أما ترينه وراء البيت؟ قال: وقد يذهب بها بعض النحويين إلى أنها كلمتان, يريد: ويك أنه, كأنه أراد: ويلك, فحذف اللام, فتجعل ” أن “ مفتوحة بفعل مضمر, كأنه قال: ويلك اعلم أنه وراء البيت, فأضمر ” اعلم “.
قال: ولم نجد العرب تعمل الظن مضمرا, ولا العلم وأشباهه في ” أن “ , وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين, أو في آخر الكلمة, فلما أضمر جرى مجرى المتأخر; ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن يقول: يا هذا أنك قائم, ويا هذا أن قمت, يريد: علمت, أو أعلم, أو ظننت, أو أظنّ، وأما حذف اللام من قولك: ويلك حتى تصير: ويك, فقد تقوله:العرب, لكثرتها في الكلام, قال عنترة:
وَلَقَـدْ شَـفَى نَفْسِـي وَأَبْـرَأَ سُـقْمَها
قَـوْلُ الفَـوَارِسِ وَيْـكَ عَنْـتَرَ أَقْـدِمِ .
قال: وقال آخرون: إن معنى قوله: ( وَيْكَأَنَّ ): ” وي” منفصلة من كأنّ, كقولك للرجل: وَيْ أما ترى ما بين يديك؟ فقال: ” وي” ثم استأنف, كأن الله يبسط الرزق, وهي تعجب, وكأنّ في معنى الظنّ والعلم, فهذا وجه يستقيم. قال: ولم تكتبها العرب منفصلة, ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة, وقد يجوز أن تكون كَثُر بها الكلام, فوصلت بما ليست منه .
وقال آخر منهم: إن ” ويْ”: تنبيه, وكأنّ حرفٌ آخر غيره, بمعنى: لعل الأمر كذا, وأظنّ الأمر كذا, لأن كأنّ بمنـزلة أظنّ وأحسب وأعلم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذكرنا عن قَتادة, من أن معناه: ألم تر, ألم تعلم, للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر, والرواية عن العرب; وأن ” ويكأنّ” في خطّ المصحف حرف واحد. ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرنا عن قَتادة, فإنه يصير حرفين, وذلك أنه إن وجه إلى قول من تأوّله بمعنى: ويلك اعلم أن الله؛ وجب أن يفصل ” ويك “ من ” أن “ , وذلك خلاف خط جميع المصاحف, مع فساده في العربية, لما ذكرنا. وإن وجه إلى قول من يقول: ” وي” بمعنى التنبيه, ثم استأنف الكلام بكأن, وجب أن يفصل ” وي” من ” كأن “ , وذلك أيضا خلاف خطوط المصاحف كلها (6) .
فإذا كان ذلك حرفا واحدا, فالصواب من التأويل: ما قاله قَتادة, وإذ كان ذلك هو الصواب, فتأويل الكلام: وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس, يقولون لما عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته: ألم تريا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده, فيوسع عليه, لا لفضل منـزلته عنده, ولا لكرامته عليه, كما كان بسط من ذلك لقارون, لا لفضله ولا لكرامته عليه ( وَيَقْدِرُ ) يقول: ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك, ويقتر عليه, لا لهوانه, ولا لسخطه عمله.
وقوله: ( لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) يقول: لولا أن تفضل علينا, فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس ( لَخَسَفَ بِنَا ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى شيبة: ” لخُسِفَ بِنَا “ بضم الخاء, وكسر السين وذُكر عن شيبة والحسن: ( لَخَسَفَ بِنَا ) بفتح الخاء والسين, بمعنى: لخسف الله بنا.
وقوله: ( وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) يقول: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون, فَتُنجِح طلباتهم.