المحتويات
هل الادراك يعود الى عوامل ذاتية ام موضوعية؟
أجد أنني -وزملائي في الصفّ- ضعافًا في حل بعض الأسئلة التي تواجهنا خلال الإمتحانات ، ومن هذه الأسئلة ورد سؤال حول الإدراك فهل الادراك يخضع لعوامل ذاتية ام موضوعية؟
هل يعود الادراك الى الذات ام الى الموضوع ؟ هل الادراك ذاتي ام موضوعي ؟
يسرنا زيارتكم طلابنا من المملكة العربية السعودية ، ولكم منا كل الشكر والتقدير على طرح السؤال وجهودكم في هذه الفترة للوصول الى إجابات وحلول أسئلة الكتب المدرسية والتدريبات الواردة في نهاية كل درس والآن سنجيب لكم على حل سؤال هل الادراك يخضع لعوامل ذاتية ام موضوعية؟
هل الادراك يخضع لعوامل ذاتية ام موضوعية؟
محاولة حل المشكلة :
الموقف الأول :”الادراك أساسه فاعلية الذات” . يرى علماء النفس وخاصة انصار المدرسة التقليدية ان الادراك عملية عقلية تركيبية يتم بها فهم الاحساسات بفضل الاحكام والاستنتاجات العقلية ، وبهذا يكون الادراك عملية عقلية مكتسبة ، حيث ان المسافة بالنسبة لهم لا تُدرك ولا تُقدر الا بفضل الاحكام العقلية نظرا لكونها شيئا يُعقل فقط ولا يُحس بها ،لأنها ليست كيفية حسية مثل اللون او الطعم ، ثم ان تقدير المسافة في نظرهم ليس فطريا بل مكتسبا ، وللتجربة او الخبرة الماضية دور كبير في ذلك، ولعل أوضح دليل على ذلك هو ان الأطفال الصغار يسيئون تقدير المسافات بالمقارنة مع الكبار، ومن رواد هذا الموقف نجد ديكارت الذي يعتقد ان الحواس ليست مصدرا موثوقا به في الوصول الى المعرفة ، ولشرح ذلك يستخدم مثاله المشهور حول قطعة الشمع التي تبدو في البداية من خلال جملة من الصفات الحسية كشيء صلب وبارد وله رائحة ، ويصدر صوتا خاصا ، لكن اذا قربنا قطعة الشمع من النار فان جميع هذه الصفات تزول ، ولن تعوضها صفات أخرى ، ولكن لا يُقال ان هذا الشيء الذي امامنا هو شيء اخر غير الذي كنا نلاحظه من قبل انها قطعة الشمع ذاتها قبل وبعد عرضها على النار ، اذن فما ادركته من قطعة الشمع بواسطة الحواس لا يوضح لي ما هو الشمع لكن الذهن هو الذي يخبرنا بذلك وهذا ما اكده ديكارت ان الادراك معاينة عقلية وليس مجرد إحساس يقول في هذا الصدد : ” اني ادرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب اني اراه بعيني” . اما الفيلسوف الان فقد اكد على فاعلية الذهن في ادراك موضوعات العالم الخارجي ، فإدراك الاحجام والمسافات والأشكال لا يعود الى احساسنا بها ، وإنما الى حُكمنا عليها ، ذلك لان الإحساس بالشيء يكون دائما جزيئا ، ولا ندركه إلا بالحكم عليه، فرؤيتنا للمكعب لا تتم بحاسة البصر ، لأننا لا نرى منه إلا ثلاثة أوجه “3”بينما هو يتألف من ستة “6” أوجه ، لأننا نعلم عن طريق الخبرة السابقة اننا اذا ادركنا المكعب فسنرى الأوجه والأضلاع التي لا نراها الان ، لذلك فإدراك المكعب لا يخضع لمعطيات الحواس ، بل لنشاط الذهن وأحكامه ، ولولا هذا الحكم العقلي لا ما تمكنا من الوصول الى معرفة المكعب من مجرد الإحساس ، وكذلك الحال في ادراك المسافة ، فعندما نلقي ببالون في الأجواء ويبتعد عنا ، فإننا لا ندرك المسافة التي تفصله عنا بمحض احساسنا ، اذ لا نرى المسافة وإنما نرى البالون يتصاغر كلما كان ابعد منا ولكن اذهاننا لا تقر بان البالون اصبح اصغر بل تحكم بأنه صار ابعد . اما بركلي يرى بان الاعمى اذا استعاد بصره بعد عملية جراحية فستبدو له الاشياء لاصقة بعينه ويخطئ في تقدير المسافات والأبعاد يقول : ” ادراك المسافات حكم يستند الى التجربة ” فحالة الاعمى تماثل حالة الصبي في مرحلة اللاتمايز. ،فلا يميز بين يديه والعالم الخارجي . اذ يمد يديه لتناول الأشياء ألبعيدة لأنه يخطئ أيضا في تقدير المسافات لانعدام الخبرة السابقة لديه . اما كانط فيؤكد ان العين لا تنقل الصورة نتيجة الإحساس إلا ببعدين من الابعاد هما الطول والعرض عند رؤية صورة او منظر ما . ورغم ذلك ندرك بعدا ثالثا وهو العمق ادراك عقليا، فالعمق كبعد ليس معطى حسي بل حكم عقلي، هذا وقد اجرى العالم مورفي تجربة على مجموعة من الأطفال ،حيث حرمهم من الطعام مدة زمنية معينة ، ثم عرض عليهم عدة صور من خلال زجاج ضبابي ، وطلب منهم تفسير هذه الأشياء ، فقالوا: بأنها مأكولات ، وكانت نسبة ادراكهم للمأكولات تزداد كلما زادت حدة الجوع ،وهو الامر الذي يؤكد اننا نحكم على الأشياء من حقيقتها ليس بحسب ما تنقله لنا الحواس فندرك مثلا العصا في بركة ماء مستقيمة رغم ان الإحساس البصري ينقلها لنا منكسرة ، كما يبدي لنا أيضا الشمس كأنها كرة صغيرة علما انها اكبر من الأرض كما تتدخل في عملية الادراك جملة من العوامل المتعلقة بالذات المدركة ، منها عامل التوقع ، حيث ندرك الموضوعات كما نتوقع ان تكون وحينما يغيب هذا العامل يصعب علينا ادراك الموضوع ، فقد يحدث ان نرى انسانا نعرفه لكننا لا ندركه بسهولة ، لأننا لم نتوقع الالتقاء به . كما ان للاهتمام والرغبة والميل دور هام في الادراك فالموضوعات التي نهتم بها ونرغب فيها ونميل اليها يسهل علينا ادراكها اكثر من تلك البعيدة عن اهتماماتنا ورغباتنا وميولاتنا ، كما ان للتعود دور لا يقل عن دور العوامل السابقة ، فالإنسان العربي مثلا يدرك الأشياء دائما من اليمين الى اليسار لتعوده على الكتابة بهذا الشكل ، ولتعوده على البدء دائما باليمين ، بعكس الأوربي الذي يدرك من اليسار الى اليمين ، ثم انه لا يمكن تجاهل السن والمستوى الثقافي والتعليمي فإدراك الراشد للأشياء يختلف عن ادراك الصبي لها ، وإدراك المتعلم او المثقف يختلف بطبيعة الحال عن ادراك الجاهل ، وفي الأخير يتأثر الادراك بالحالة النفسية الدائمة او المؤقتة . فإدراك الشخص المتفائل الى موضوع ما ، يختلف عن ادراك المتشائم له
النقد والمناقشة لكن صحيح بأنه لا يمكن اهمال العوامل الذاتية في عملية الإدراك لكن هذه العوامل وحدها لا تكفي، فالعقل وحده لا يؤدي الى الادراك . إذا كان الشيء معاقا بعوائق خارجية ، اما عن جملة الاعتراضات التي وجهت لأصحاب هذه النظرية تمثلت فيما يلي : لا يمكن ان نرجع الادراك الى العقل ونهمل دور الحواس في ذلك ن فعالم الأشياء بظواهره المتعددة يلعب دورا كبيرا في تمام عملية الادراك ، فالعقلانيون ركزوا على العوامل الذاتية وأهملوا العوامل الموضوعية ، كما ان العوامل الذاتية تظل ناقصة حتى وان بدى لها بعض ألتأثير ،لان الادراك له ارتباط بالموضوعات .اذ ان النظرية العقلية لم تخلو من بعض السلبيات ، ذلك لكونها ترى الادراك عملية عقلية والعقل معارفه نسبية ،والدليل على ذلك التصورات القائمة في حقيقة الرياضيات ، كما انهم تجاهلوا العوامل الموضوعية وكان العالم الخارجي فوضى والذات هي التي تقوم بتنظيمه .
الموقف الثاني : “نقيض القضية” : ” الادراك يعود الى انتظام الأشياء”. يرى انصار النظرية الجيشطالتية وخاصة كوفكا ، كوهلر والفرنسي بول غيوم . ان ادراك الأشياء عملية موضوعية وليس وليد احكام عقلية تُصدرها الذات ، كما انه ليس مجموعة من الاحساسات ، فالعالم الخارجي منظم وفق عوامل موضوعية وقوانين معينة هي قوانين الانتظام ، كما ترفض هذه النظرية التمييز الكلاسيكي بين الإحساس والإدراك ، فالأولوية ليست للعناصر الجزئية بل للبنية او الشكل الذي يمنح لها معناها ودلالتها الادراكية فنحن لا ندرك الأوراق ثم الاغصان ، ثم الجذع وأخيرا الشجرة . بل اننا ندرك الشجرة أولا ككل قبل ان ندرك تفاصيلها وأجزائها كما تنفي هذه النظرية نفيا كليا فيرال الإحساس الخالص . يقول بول غيوم :” ان الاحساسات التي تحدث عنها علم النفس التحليلي ليس لها وجودا واقعيا ” ويضيف قائلا :” ان نظرية الجيشطالت تسلم بان الصورة او الشكل هو المعطى الأول ، ولا توجد مادة دون شكل “. وهو ما يعني ان الجيشطالت ليست وليدة نشاط عقلي ، بل هي معطى موضوعي مرتبط بالأشياء المدركة ذاتها ، فالأشياء تدرك وفقا لبنيتها الخاصة والموضوعية على أساس ان كل مُدرك يظهر لنا دائما كصورة بارزة امام خلفية او أرضية معينة ، فنحن ندرك الصبورة مثلا كصورة بارزة امام خلفية هي الجدار ، وما ليس له شكل معين لا يُدرك يقول غيوم : ” ان الوقائع النفسية صورة ، أي وحدات عضوية تنفرد وتتحدد في المجال المكاني والزماني للإدراك او التصور ، وتخضع الصور بالنسبة للإدراك لمجموعة من العوامل الموضوعية “. فادراك الموضوع هو ادراك صورة كوحدة منظمة او بنية شاملة فهو مرتبط بطبيعة الموضوع المدرك وشكله ومدى انتظام عناصره في صورة كلية منظمة ذات شكل معين وليس مرتبط بالخبرة، فكل موضوع يُدرك حسب بنيته وشكله ومدى انتظامه وعلة ذلك مجموعة من القوانين التي يعتبرونها عوامل موضوعية تحكم المجال الادراكي للإنسان ، وتتمثل قوانين الانتظام حسب الألماني كوهلر في : قانون الشكل والارضية : كل ما كان الشكل اكثر وضوحا على الأرضية كان ادراكنا له جيدا ومثال ذلك النجوم في الليل تكون بشكلها اكثر وضوحا لان الأرضية ” السماء” سوداء ، اما في النهار فلا تظهر لان الأرضية بيضاء ، كما نجد أيضا الوردة المرسومة على القماش بشكل أوضح من الأرضية التي هي القماش ، والبقعة السوداء المرسومة على ورقة بيضاء تعتبر شكل اوضح من الورقة كأرضية . ثانيا: عامل التشابه : فنحن ندرك الأشياء المتشابهة في الشكل او الحجم او اللون ، كصيغ مستقلة تدرك كوحدة منظمة ، لأنها مجموعة من الجنود او رجال الشرطة لتشابه الزي ، اكثر من مجموعة من الرجال في السوق او الشارع . ثالثا : عامل التقارب : حيث ان الأشياء المتقاربة في الزمان او المكان يسهل ادراكها كصيغة متكاملة ، فنحن ندرك اسنان المشط ككل واحد ، وليس سنة سنة ، وندرك كراسي حجرة القسم كوحدة متكاملة نتيجة تقاربها بعكس لو كان كل كرسي منها في حجرة ، وأيضا يسهل علينا ادراك الموضوعات المتقاربة في الزمان والمكان اكثر من الموضوعات المتباعدة ، حيث ان الموضوعات المتقاربة تميل الى تجمع بأذهاننا ، فالتلميذ مثلا : يسهل عليه فهم وإدراك درس ما اذا كانت عناصره متقاربة في الزمان ويحدث العكس ،اذا ما تباعدت . يقول عالم النفس السويسري جان بياجي :” اذا رأينا ثلاث او اربع نقاط متقاربة بدل النقطة الواحدة ،لم نستطع ان نمنع انفسنا من جمعها في صورة تقديرية من المثلثات او المربعات”. رابعا عامل الاتصال : فالأشياء المتصلة ببعضها التي تربط بينها خطوط او علاقات تُدرك كصيغ متكاملة . خامسا : عامل الاغلاق : فنحن في ادراكاتنا نميل الى سد الثغرات او النقائص او التغاضي عنها ، فندرك الأشياء الناقصة كما لو كانت كاملة ، فالدائرة الناقصة في بعض اجزائها ندركها كاملة ، وندرك الشكل الذي لا يتقاطع فيه ضلعان مثلثان بالرغم من انهما ناقصان ،كما ندرك وجه الانسان في صورة ما . كما لو كان كاملا وان كان ينقص الانف او الاذن ، مما يعني ان الموضوعات المدركة هي التي تفرض نفسها على الذات المدركة حيث يقول كوهلر : “ان الادراك يرجع الى الموضوع الخارجي لان شكل الموضوع وبناؤه العام هو الذي يحدد درجة الادراك ومدى وضوحه”. بهذا فقد حاول الجيشطالت استبعاد فيرال الإحساس من حيث هو عملية تأليفية في الادراك . الامر الذي كان يُعطي للعوامل الموضوعية أهمية كبري ، وحاولوا ارجاع الادراك الى قانون الانتظام الموضوعي ولهذا رأى ويمر ان البحث في الشروط الذاتية للإدراك لن يكون ذا نتيجة ، فقد اثبتت التجارب خطا الادراك البصري في توهم إدراك خط متصل عند تحريك سيجارة مشتعلة بسرعة ما . ما بين نقطتين ، يوحي في الظلام بادراك خط متصل ، وهذا هو الخطأ الذي يصدر عن العوامل الذاتية ، لأننا نفسر حركة السيجارة الموضوعية بعامل ذاتي موجود في خبرتنا الماضية ، وهو الخط المتصل ، وهكذا حاول الجيشطالت ادخال عوامل موضوعية في عملية الادراك .
هل الادراك مجرد نشاط ذاتي؟
كلما كان الانتباه أكثر كلما زاد الاهتمام بالشيء المدرك، ومن ثم يسهل إدراكها فالتلميذ الذي يدخل الامتحان مضطربا يكون إدراكه أقل فاعلية، من الذي تكون حالته النفسية مستقرة، كما أن للحالة الحالة الجسمية والنفسية للذات المدركة أثر كبير في توجيه وتحديد إدركاتنا: حيث يتأثر إدراكنا للأشياء بحالتنا النفسية والجسمية وقت الإدراك.