المحتويات
ربي اني لما انزلت الي من خير فقير
ويقول ابن كثير فى كتابه «قصص الأنبياء»: «بعد رحلة طويلة شاقة وصل إلى ماء مدين. وصل وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطّلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى – عليه السلام – وجد الرعاة الرجال يوردون دوابهم لتشرب من الماء، ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما. ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف وثارت نخوته – عليه السلام – وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولاً، فسقى لهما، ثم ذهب لظلّ شجرة ليستظلّ من قيظ الحر وعناء الرحلة والسقيا، ويناجي ربه ربّ إني فقير. ربّ إني وحيد. ربّ إني ضعيف. ربّ إني إلى فضلك ومنّك وكرمك فقير محتاج، وكأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب، فجاءه الفرج من عمل بأجر وزواج واستقرار وأمن وأمان.
الذكر والثناء
وجاء تفسير ابن كثير: لقوله تعالى: «ثمّ تولى إلى الظل فقال ربّ إني لما أنزلتّ إليّ من خير فقير» عن ابن عباس: «سار موسى من مصر إلى مَدْيَن، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل مَدْيَن، حتى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لَتُرى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة».
وقال: فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسّل إلى المدعوّ بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض، بل صرح، بشدة حالته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه وأوصاف المسؤول مقتضى منه، فاجتمع المقتضى من السائل والمقتضى من المسؤول في الدعاء، فكان أبلغ وألطف موقعاً وأتمّ معرفة وعبودية.
وأنت ترى في الشاهد ولله المثل الأعلى أن الرجل إذا توسّل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول وأقرب إلى قضاء حاجته، من أن يقول له ابتداء أعطني كذا وكذا، فإذا عرف هذا فتأمّل قول موسى عليه السلام: «ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير».
فرج بعد شدة
وها هي الإجابة السريعة للدعاء ليست طعاماً فقط، بل مأوى وعمل وزوجة، فيقول عزّ من قائل فى كتابه العزيز: «فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا، فلما جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين، قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمين، قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمانية حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليكَ ستجدني إن شاء الله من الصالحين، قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوانَ عليّ واللهُ على ما نقول وكيل» (سورة القصص الآيات25-28).
ويقول د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني في كتابه»شرح الدعاء من الكتاب والسنة»: «إن هذا الدعاء هو من دعوات موسى عليه السلام، التي كثر عنها الحديث في كتاب ربنا، دلالة على أهميتها، والدعوة إلى العناية بها، فهماً، وعلماً، وسؤالاً، ومطلباً، ففيها من الخيرات والمنافع الكثيرة التي تعود على العبد، بما يصلح أموره، وأحواله في الدنيا، ومرجعه في الآخرة، فقد ذكر المفسرون أن موسى عليه السلام لما جهد في السفر، وانقطع عن الأهل، بلغ به الجوع كل مبلغ، ولم يكن معه من الطعام ما يأكله، فعرف أين المقصد، وأين المخرج، فعرف أن المفرّ إلى ربه تبارك وتعالى الذي اعتنى به منذ صغره إلى هذه الحال، عرف ربه في الرخاء، فعرفه في الشدة، فتوسّل إليه بألطف الوسائل».
أدب نبوي
«قوله: «ربّ إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير»: ذكر حاله إلى ربه تبارك وتعالى بألطف الكلمات والعبارات، المتضمّن لطلب إنزال الله الخيرات، وهذا من أبلغ الوسائل، وألطفها، لما فيها من حسن الأدب وكمال الطلب. وكأني بحاله يقول: يا ربّي، إني لما أنزلت إليّ من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني بك عمّن سواك». تضمّنت هذه الدعوة المباركة جملة من الفوائد منها: أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر، بل من كمال الإيمان بالله تعالى، والرضا بقدره، وعلى الداعي أن يتوسّل إلى الله بأنواع التوسّل المشروعة، وإن ذلك من كمال العبودية التي يحبّها الله، و مشروعية الاستعاذة من الفقر أيضاً، وأنها سنة الأنبياء والمرسلين، فقد كان من دعاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ إني أعوذُ بك من الفَقر، والقِلّة، والذّلّة، وأعوذُ بك من أن أَظلم أو أٌظلم» (أخرجه أبو داود والنسائي).
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
«وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» (سورة غافر: الآية 60)، فالدعاء يصل الخلق بالخالق، ويعبر عن إيمان عميق بأن هناك إلهاً قديراً على كل شيء، بيده الأمر كله، يقدم المساعدة لمن يطلبها وفى أي وقت. بابه مفتوح لا يغلق في وجه أحد مهما عظم أو صغر، نلجأ إليه في كل وقت وخصوصاً في الشدة، ولكن كيف يكون الدعاء؟ فالدعاء له آداب وشروط حتى يتحقق، ولن نجد خيراً من الأدعية التي دعا بها الأنبياء، عليهم السلام ربهم، والتي وردت في القرآن الكريم، وفي صحيح سنة المصطفى، صلى الله عليه وسلم. ولقد مرّ الأنبياء بمواقف صعبة لم ينقذهم منها إلا صدق دعائهم، حيث كانت لهم في هذه المواقف أنبل الكلمات وأجمل الألفاظ التي تجسّد حسن التوسل ومناجاة الله وحده، ومن خلال هذه الحلقات نتعرف إلى المواقف التي تعرض لها الأنبياء الكرام وإلى الأدعية التي دعوا بها ونتعلم كيف يكون الدعاء.