نتعرف اليوم على بعض من صور التواضع ، فالتواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس وينشر الترابط بينهم ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس. وقيل: هو تعظيم من فوقه لفضله.
المحتويات
من صور التواضع
-1تواضع الإنسان في نفسه
ويكون ذلك بألا يظن أنه أعلم من غيره، أو أتقى من غيره أو أكثر ورعاً من غيره، أو أكثر خشية لله من غيره، أو يظن أن هناك من هو شر منه، ولا يظن أنه قد أخذ صكاً بالغفران!! وآخر بدخول الجنة!!؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. [الانفال: 24]، بل إن ذلك يؤدي إلى الكبر.
-2التواضع في التعلّم
قال الشافعي: لا يطلب هذا العلم أحد بالملك وعزة النفس فيفلح، لكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النفس أفلح.
وعن الأصمعي قال: من لم يحمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبداً.
قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
-3التواضع مع الناس
فالمسلم يخالط الناس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلامية، ومن طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يعظم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقا، بل عليه أن يعرف أن جميع ما عنده هو فضل من الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظاً في كلامه مع الآخرين، ومن تواضع المسلم مع الناس أن يجالس كل طبقات المجتمع، ويكلم كلا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء.
يقول تعالى:وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.[الكهف: 28]
-4التواضع مع الأقران (الأصحاب)
ومن التواضع أن يتواضع المرء مع أقرانه، وكثيراً ما تثور بين الأقران والأنداد روح المنافسة والتحاسد، وربما استعلى الإنسان على قرينه، وربما فرح بالنيل منه، والحط من قدره وشأنه، وعيبه بما ليس فيه، أو تضخيم ما فيه، وقد يظهر ذلك بمظهر النصيحة والتقويم وإبداء الملاحظات، ولو سمى الأمور بأسمائها الحقيقة لقال: الغيرة.
-5تواضع الإنسان مع من هو دونه
ومن التواضع: التواضع مع من هو دونك، فإذا وجدت أحداً أصغر منك سناً، أو أقل منك قدراً فلا تحقره، فقد يكون أسلم منك قلباً، أو أقل منك ذنباً، أو أعظم منك إلى الله قرباً.
حتى لو رأيت إنساناً فاسقاً وأنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه، واحمد الله على أن نجاك مما ابتلاه به، وتذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب يحبطه، وقد يكون عند هذا المذنب من الندم والانكسار والخوف من خطيئته ما يكون سبباً في غفران ذنبه.
عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. [رواه مسلم: 2621]
-6تواضع صاحب المال
فإن مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوة، والنفوذ، أحوج الخلق إلى خُلق التواضع. لأن هذه النعم مدعاة إلى الكبر والفخر.
وما ابتليت الأمة بمصيبة الكبر إلا من هؤلاء، ولو نظر صاحب المال مثلاً إلى سالف أمره، إذا ما رزق مالاً أن يشكر ربه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمنه بعد خوف، وأن يجعل التواضع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشكر العملي الحقيقي .
-7تواضع القائد مع الأفراد
القائد الناجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين هم تحته؛ لأنه كلما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محبباً إليهم، فهم يطيعونه عن حب وإخلاص، يقول تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . [الشعراء: 215]
ومن مظاهر هذا التواضع، عدم الاستبداد بالرأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أن استفراغ ما عند الأفراد من آراء وأفكار لاشك أن ذلك يفتح أبواباً كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنزول عن الرأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلل من نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشورى قد يجبر الله ما بها من قصور، ولله در القائل:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به … رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
نماذج من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جم التواضع، لا يعتريه كبر ولا بطر على رفعة قدره وعلو منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه )). [سنن ابي داود: 4698]
وقال له رجل: يا محمد أيا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)). [السلسلة الصحيحة: 101/4]
نماذج من تواضع الصحابة رضوان الله عليهم
لما استُخلف – أبو بكر الصديق رضي الله عنه – أصبح غادياً إلى السوق وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة فلما بويع قالت جارية من الحي الآن لا يحلب لنا فقال بلى لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.
وكان يقول (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن).
قال هذا وهو من المبشرين بالجنة ، وهو الصديق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده!!
تواضع عمر رضي الله عنه:
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن كسرها).
تواضع عثمان رضي الله عنه:
قال الحسن: (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة ويقوم وأثر الحصى بجنبه فنقول هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين).
تواضع علي رضي الله عنه:
عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال: (رئي على علي بن أبي طالب إزار مرقوع فقيل له تلبس المرقوع فقال يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب).
تواضع عبد الله بن سلام رضي الله عنه :
أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه مر في السوق وعليه حزمة من حطب فقيل له أليس الله قد أعفاك عن هذا قال بلى ولكن أردت أن أدفع به الكبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)). [سنن ابي داود: 4091]
نماذج من تواضع السلف
تواضع عمر بن عبد العزيز:
كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه، فأصلحه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين؛ ألا نكفيك؟ قال: وما ضرني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
ونادى رجل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله في الأرض.
فقال له عمر: مه، إني لما وُلِدت اختار لي أهلي اسما، فسموني عمر، فلو ناديتني: ياعمر؛ أجبتك. فلما كبرت اخترت لنفسي الكنى، فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني: يا أبا حفص، أجبتك. فلما وليتموني أموركم سميتموني أمير المؤمنين، فلو ناديتني: يا أمير المؤمنين؛ أجبتك. وأما خليفة الله في الأرض، فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داود النبي عليه السلام وشبهه، قال الله تبارك وتعالى( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص: 26]