شرح حديث: رب صائم ليس له من قيامه إلا السهر
الصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل والشرب والشهوة وغير ذلك من الأمور التي تبطل الصيام ، وليس كل من صام على هذا النحو عدَّ عند الله صائما، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ” كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش” (صحيح أخرجه النسائي)، أي ليس له عند الله أجر ، ذلك لأن للصيام حقيقة ظاهرة وحقيقة باطنة ولا يعدُّ الصائم صائما إلا إذا أدرك الحقيقتين وأداهما حق الأداء، وحقيقة الصيام الظاهرة الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس وهذا تعريف الصيام عند الفقهاء، وحقيقته الباطنة حمل الصائم على المعروف وزجره عن المنكر، وتزكية نفسه وتنمية فيرال ، والحقيقة الأولى طريق والثانية هدف وليس كل من سار على الطريق بلغ الهدف, لذا فليس كل من أدى الصيام بحقيقته الأولى بلغ الغاية وهي حقيقته الثانية.
رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ
وفي هذا المعنى ذكر الإمام الغزالي أن الصوم ثلاث مراتب هي: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص, أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن المفطرات وهو الصيام بالمعنى الفقهي أو الحقيقة الظاهرة وصوم الخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد وسائر الجوارح عن الآثام. وصوم خصوص الخصوص هو كف القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية. والمرتبة الثانية والثالثة هي الصوم بحقيقته الباطنة وهي مرتبة أعلى ومقصد أسمى، وعنهما تتقاصر الهمم وفيهما تتفاضل الأمم، فإذا حققهما العبد كانت له فرحتان، ودخل الجنة من باب يسمى الريان أعده الله للصائمين، واستحق أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه جزاء صومه.
إن من صام وانقطع عن الحلال حبا لله ينبغي أن ينقطع عن الحرام خوفا منه, وينبغي أن ينقطع عن المنكر قولا كان أو فعلا, قال صلى الله عليه وسلم:” الصيام جنة وإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ” (رواه البخاري). فإن لم يفعل ذلك ولم تزك نفسه ولم يحل لسانه ولم تستقم جوارحه بالصيام فلا حاجة لله لأن يدع طعامه وشرابه يقول صلى الله عليه وسلم: ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ” (رواه البخاري).
إن من صام عن اللحم الحلال وأكل لحم أخيه بالغيبة فلا صيام له، ومن صام وتصدق بيد ثم امتدت الأخرى وسرقت أو رشت أو ارتشت فلا صيام له، ومن صام عن زوجته حليلته، ومالت نفسه إلى النساء المحرمات فلا صيام له، لأن الأصل في الصيام أن يقي الصائم عن الوقوع في الفاحشة، يقول صلى الله عليه وسلم ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” (رواه البخاري). فإن لم يقه صيامه عن الفاحشة فصيامه ليس على حقيقته, وبالتالي لا صيام له.
ثم إن حقيقة الصيام أن يحمل صاحبه على الجد في العبادة، وقيام الليل والاجتهاد في العمل فإن حمله صيامه على الخمول والكسل وطول النوم والتقصير في العمل فلا صيام له. وحقيقته أن يحمل صاحبه على الاجتهاد في تلاوة القرآن وإدامة الذكر والتفكر في خلق الله, وريادة المساجد ومجالس العلم، فإن حمله على اللهو وسماع الغناء الفاحش، وطول المكث أمام التلفاز فيما يفيد وما لا يفيد والسعي إلى أماكن الفساد فلا صيام له.
على المسلم الذي صح قصد صيامه أن يصحح كيفيته؛ لأن شرط قبول العمل صحة القصد وصحة الكيفية, وعلى المسلم الذي صام وأجهد جسده رغبة في الثواب أن يهذب نفسه ليحصل عليه. عليه أن يدرك حقيقة الصيام الظاهرة والباطنة ويؤديهما على أكمل وجه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإن غربت الشمس جلس على مائدة الإفطار وقال ” اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله “.. يقول : ثبت الأجر إن شاء الله وهو واثق بعدل الله وكرمه.