دعاء من استصعب عليه أمر ” اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا ” ودعاء ما يقول ويفعل من أذنب ذنبا ” ما من عبد يذنب ذنباً … “
اللهم أي: يا الله،لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً، السَّهل يُقال لكل شيءٍ يتَّصف باللِّين واليُسْر وذهاب الخشونة؛ ولهذا يُقال:”سهلة” للتراب الذي يكون على شاطئ البحر، فيه حبَّات كبار من الرمل، يُقال له:”سهلة”، هذه سهلة، أرض سهلة. يُقال: أرض سهلة، يعني: نقيض الحزنة، الحزنة هي الغليظة، أرض جبليَّة، كالحرّة، ونحو ذلك، وهكذا حينما نقول: أسهل القومُ، يعني: نزلوا السَّهل بعد نزولهم الحزن.
وهكذا يُقال: أسهل القومُ؛ إذا استعملوا السُّهولة مع الناس في تعاملهم، ويُقال: أحزنوا؛ إذا استعملوا الشدّة في التَّعامل.
فهذا قوله ﷺ: اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً، فالشَّيء المنقاد اليسير الذي لا يمتنع على مَن أراده يُقال له: سهل، بخلاف الحزن؛ فهو يُقال لكل شيءٍ لا سهولةَ فيه، سواء كان ذلك في الأعيان، أو في المعاني: أرض حزنة، يعني: غليظة جبليَّة، هذا في الأعيان، وكذلك في المعاني يُقال: طبيعة فلان حزنة، يعني: شديد في تعامله، صعب الخلق، فهذا يُقال للجميع.
فهذا الدعاء بأنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يكون شيءٌ من الأشياء موصوفًا بالسُّهولة إلا ما جعله الله كذلك، وهو الذي يجعل الحزنَ إذا شاء سهلاً.
هذه الأمور التي قد تبدو أنها يسيرة وسهلة قد تتحول إلى شيءٍ آخر، فيجد فيها الإنسانُ من العناء والعنت ما لايخطر له على بالٍ، ومن ثم فإنَّ العبد لا غنَى له عن ربِّه -تبارك وتعالى-؛ لأنَّه يصرف الأشياء، هذه الدَّابة التي قد تبدو يسيرة وسهلة، أو السيارة المنقادة، الجيدة، القوية، محكمة الصنع، قد يجد منها أشد المعاناة.
وهكذا المراكب الأخرى من الدَّواب وغيرها، وما يُلابسه الإنسانُ ويُقارفه، هذا الطفل الصَّغير الذي تتمنَّاه أمه، فلمَّا وُلِدَ لربما يُحول حياتها إلى شيءٍ من الشَّقاء، والعناء، والعذاب، طفل صغير، رضيع، فكيف بالكبير، الولد قد يُشقي أبويه، وقد يكون في غاية السُّهولة واللِّين والشَّمائل الكريمة، سهلاً، مُنقادًا، طيِّعًا، هيِّنًا، ليِّنًا.
وقد يقصد الإنسانُ شيئًا من الأشياء التي ربما يصعب التَّعامل معها: التَّعامل مع زيدٍ أو عمرو ممن عُرف بالصُّعوبة في تعامله، فيذهب إليه؛ فتُفتح له المغاليق، فيجد الأمورَ في غاية السُّهولة، خلاف ما كان يتوقّع.
ومن هنا فإنَّ مثل هذا يُقال في حال مواجهة الإنسان للأمور التي تستصعب عادةً، ويقوله الإنسانُ أيضًا في كلِّ حالاته؛ لأنَّه كما سبق قد يكون هذا الشَّيء السَّهل صعبًا إذا أراد اللهُ -تبارك وتعالى- ذلك، فالله خالق الخلق، وهو مُدبرهم، ومُصرّفهم، وكل شيءٍ تحت قُدرته ومشيئته، فإذا أراد الإنسانُ أن يقوم بعملٍ من الأعمال التي ربما يتخوّف من الإقدام عليها، فإنَّه يقول مثل هذا:اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً، وأنت تجعل الحزنَ إذا شئتَ سهلاً، هذا خبرٌ، لكنَّه خبرٌ يتضمن الدُّعاء، والطَّلب، والسُّؤال؛ لأنَّه حينما يقول ذلك هو مُخبرٌ، لكنَّه في مضمونه يقول: يا ربّ، سهِّل لي هذا الأمر. والدُّعاء والسؤال أحيانًا يكون بصيغة الخبر، وأحيانًا يكون بصيغة الطَّلب الصَّريح.
إذا أراد الإنسانُ أن يُقدم على سفرٍ، أن يرمي الجمارَ مثلاً، إذا أراد الإنسانُ أن يدخل اختبارًا لربما استصعبه، أو إذا أراد أن يقوم بعملٍ شاقٍّ، أو بعلاجٍ يتطلب ألـمًا ومُعاناةً، الناس يجرون العمليات، سواء كان هؤلاء من المرضى، أو من الأطباء، أو الناس الذين يُعانون -نسأل الله أن يُعافي الجميع- الغسيل الكُلوي مُعاناةً كبيرةً جدًّا، مُتكررة، الناس الذين يُعانون من أمراض السَّرطان، ونحو ذلك-نسأل الله أن يُعافي الجميع-، هؤلاء يتعاطون أدويةً معروفةً، يحصل بها من الآثار ما لا يخفى، مثل هذا إذا يسَّره الله صار في غاية السَّلاسة، وارتفعت عن الإنسان الأمور التي يجدها الناسُ ويُعانونها؛ ولذلك تجد الاثنين يرجعان من موضعٍ واحدٍ هو مظنّة المشقّة: كالحج، هذا يذكر اليُسر والسُّهولة، ويتحدَّث عن أنواع اليُسر التي شاهدها، والآخر يتحدَّث عن غاية الصُّعوبة، والمشقَّة التي لقيها،وهو في نفس الحملة أحيانًا، ما الذي جعل أمورَ هذا تتعسر، وأمورَ هذا تتيسر؟ الله هو الذي يُيَسِّر الأمورَ، فالعبد يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- ذلك، ولا غنى لأحدٍ عن ربِّه -جلَّجلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
هذا ما يتعلق بهذا الذكر.
الذكر الذي بعده ذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو ما يقول ويفعل مَن أذنب ذنبًا، ذكر فيه حديثَ عليٍّ قال: كنتُ رجلاً إذا سمعتُ من رسول الله ﷺ حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدَّثني أحدٌ من أصحابه استحلفتُه، فإذا حلف لي صدَّقتُه.
قال: وحدَّثني أبو بكر-وصدق أبو بكر أنَّه قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من رجلٍ يُذْنِبُ ذنبًا، ثم يقوم فيتطهّر، ثم يُصلِّي، ثم يستغفر الله؛ إلا غفر اللهُ له، ثم قرأ هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:135].
هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي[5]،وسكت عنه أبو داود، وعرفنا أنَّ ما سكتَ عنه فهو مقبولٌ عنده، صالحٌ للاحتجاج.
وقال عنه البزارُ: بأنَّ إسناده فيه عِلَّة، أو معلول؛ فيه أسماء بن الحكم، مجهول[6].وقال في موضعٍ آخر: رُوِيَ من وجهين، وفيه أسماء بن الحكم، مجهول[7].وقال مرةً: إسناده معلول، وفيه عبدالله بن سعيد، مُنكر الحديث[8].إلى آخر ما قال.
وهذا الحديث قال عنه أبو بكر ابن العربي: حسنٌ، صحيحٌ.
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: صحيحٌ[9]،رحم الله الجميع.
عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- يقول:”كنتُ رجلاً إذا سمعتُ من رسول الله ﷺ حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني”، يعني: في العلم والعمل، فهو يُطبق ويمتثل مُباشرةً.
“وإذا حدَّثني أحدٌ من أصحابه استحلفتُه، فإذا حلف لي صدَّقْتُه” هذا الاستحلاف ما وجهه؟
وجهه أنَّه زيادةٌ في التَّوثق، وإلا فالصَّحابة جميعًا عدولٌ، لكن هذا زيادة في الاطمئنان والتَّوثق، مثل: عمر في حديث الاستئذان، وقصّة الاستئذان لما جاء أبو موسى الأشعري فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى. فلم يُجبه، ثم استأذن الثانية: السَّلام عليكم، هذا الأشعري. ثم استأذن الثالثة، ثم انصرف؛ فدعاه عمرُ وسأله، فذكر له الحديثَ؛ حديث الاستئذان ثلاثًا، فطلب منه عمر أن يأتي بالبينة، يعني: مَن يشهد له أنَّ النبي ﷺ قالهذا، مع أنَّه لا يتّهمه، “أو لأفعلنَّ بك”، و”أفعلنَّ”يتهدده، فذهب إلى مجلسٍ من الأنصار، فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا. يعني: كلهم يعرف الحديثَ، فشهدوا له، وذكر له عمرُ أنَّه لا يتّهمه[10]،ولكن كان عمرُ لا يُريد أن يتسارع الناسُفي الرواية عن رسول الله ﷺ،ويقع التَّساهل في ذلك، ويقع الغلط.
الشاهد: أنَّ عليًّا كان يتوثَّق، ويطمئنّ، وإلا فالصَّحابة عدول، يقول: “فإذا حلف لي صدَّقته”، هذا زيادةٌ في الاطمئنان.
يقول: “وحدَّثني أبو بكر، وصدق أبو بكر”، هذا من رواية الأقران -كما يقولون-: علي وأبو بكر أقران، في طبقةٍ واحدةٍ، هؤلاء من كبار الصَّحابة ،فكان يروي بعضُهم عن بعضٍ.
يقول: “وصدق أبو بكرٍ”، يعني: علمتُ صدقَه في ذلك، هو لا يحتاج إلى استحلافٍ.
وأبو بكرٍ لُقِّب بـ”الصّديق”، والصّديق هذه صيغة مُبالغة؛لكمال تصديقه، ما قال النبيُّ ﷺ شيئًا إلا قال: “صدقتَ”، ولكمالصدقه، فهذه مرتبة الصّديقية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ[النساء:69]، مرتبة الصّديقية، كمال التَّصديق مع كمال الصِّدق.
فهنا يقول:”قال”،يعني: أبا بكرٍ :”سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: ما من رجلٍ“، هنا ذكر الرجلَ من باب التَّغليب، أو التَّشريف، وإلا فالمرأة كذلك، يعني: أو امرأة،يُذنب ذنبًا أيّذنبٍ، ظاهره أنَّه ولو كان كبيرةً،ثم يقوم؛ لأنَّ قوله ﷺ: ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، فيُحسن الطّهور،”ذنبًا” هنا نكرة في سياق الشَّرط؛ فهي تُفيد العموم، فيشمل الذنوبَ الكبار، والذنوب الصِّغار.
قال هنا: فيُحسن الطّهور يعني: يتوضّأ وضوءًا كاملاً.
وبعض أهل العلم طرق إليه احتمالات أخرى: أنَّ المراد الغُسل، فهو أكمل، لكن ظاهر الحديث أنَّ المراد الوضوء، كما جاء في روايةٍ: فيتوضأيعني: وضوءًا كاملاً، تامًّا.
فيُحسن الطّهور، ثم يقوم فيُصلي،”ثم”هذه للتَّراخي في الرتبة، يعني: ليس فقط يكتفي بالطَّهارة، بل فوق ذلك يُصلِّي.
ويحتمل أن يكون ذلك للتَّراخي الزمني، يعني: بعد الطَّهارة يُصلِّي، بعد الفراغ من الطَّهارة يُصلِّي: يُصلِّي ركعتين، ثم يستغفر الله؛ إلاغفر اللهُ له.
يتطهر، فيُحسن الطّهور: ثم يُصلِّي، هنا قيَّده بهذا القيد؛ قال: يُصلِّي ركعتين، لو صلَّى أكثر من ركعتين فهذا لا إشكالَ فيه: ثم يستغفر الله يطلب المغفرةَ من اللهلذلك الذَّنب، يقول: ربِّ اغفر لي.
والمراد بالاستغفار هنا أي: التوبة، وكما ذكرنا في الكلام على التوبة في الأعمال القلبيَّة: أنَّ الاستغفار يكون على نوعين، يعني:الإنسان إذا أذنب وأساء أحيانًا يقول: أستغفر الله، أو تقول له: استغفر، فإن كان ذلك مما يجري على اللِّسان، يقصد به مجرد الذكر؛ فهذا ليس بتوبةٍ، فإن قال: الاستغفار يُقصد به التوبة، يندم، ويعزم ألا يعود، ويُقلععن الذَّنب، وإن كان ثمة مظلمة تخلَّص منها، فهذه هي التوبة.
فالاستغفار أحيانًا يكون توبةً، وأحيانًا لا يكون، يستغفر لهذا الذَّنب، ثم إذا استغفر يقوم يُصلِّي ركعتين، ثم يستغفر الله، هنا يحتمل، ثم يستغفر الله يحتمل أنَّه يستغفر في هذه الصَّلاة، ويحتمل أنَّه يستغفر بعدها، فـ”ثم” هذه قد تكون للتَّراخيالرتبي أيضًا، يعني: فوق الصَّلاة يستغفر، ويحتمل أن تكون الزَّمني، وحتى لو أنَّها على التَّراخي الزمني يحتمل أنَّه-يعني: ثم يستغفر الله– يعني: في آخر صلاته، أو يكون بعد ذلك.
والذي يظهر -والله أعلم- أنَّه إن استغفر في هذه الصَّلاة، أو استغفر خارجها بعدها، كلّ ذلك يصدق عليه ما ذكر في هذا الحديث، فهنا يكون استغفاره توبةً، فإن كانت هناك حقوقٌ للمخلوقين لا بدَّ من ردِّها.
إلا غفر اللهُ له، ثم قرأ النبيُّ ﷺ استشهادًاواعتضادًا، أو يحتمل أنَّ الذي قرأ هو أبو بكر الصّديق ،قرأ تصديقًا لذلك، قرأ هذه الآية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران:133-136]، فهذا الجزاء المرتّب لهؤلاء، فقرأ هذه الآية.
ولاحظ أنَّه قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ،فهذا يدلّ على أنَّه إذا كان ذلك من قبيل الكبائر، أو الصَّغائر.
وقوله:ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ،وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ هذا يمكن أن يكون من قبيل العطف على المتَّقين:أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، وذكر الأوصاف، ومنها: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فمن صفاتهم: التوبة، هذه من صفات المتقين.
ويحتمل أن يكون: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةًأن يكون هذا مُبتدأ، خبره ما يأتي، ويكون ذلك تأسيسًا لجملةٍ مُستأنفةٍ جديدةٍ.
ويمكن أن يكون العطفُ تفسيريًّا، ويكون التَّقدير: وهم الذين إذا فعلوا فاحشةً، أو ظلموا أنفسَهم، يعني: تكون هذه جميعًا من أوصاف المتَّقين، أو أنَّ الله ذكر: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ثم ذكر غيرَهم قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.
والأقرب -والله أعلم- أنَّ هذه مُتعاطفات، وأنَّ ذلك من صفة المتقين، وأنَّه لا يخلو أهل التقوى من وقوع تقصيرٍ، أو ذنبٍ، أو زلَّةٍ، أو معصيةٍ، لكن ما حالهم؟
كما قال الله -تبارك وتعالى-:إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] يعني: إخوان الشَّياطين، الشَّياطين ليس لها ذكرٌ هنا، لكن الضَّمير يرجع إلى الشَّياطين: وَإِخْوَانُهُمْ أي: إخوان الشَّياطين: يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ يعني: تمدّهم الشَّياطين في الغيِّ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ يعني: لا يرجع، هو مُستمرٌّ إلى آخر لحظةٍ في حياته في الشَّر، والباطل، والمنكر، والرَّذيلة؛ لأنَّ الشَّياطين تمدّهم.
أمَّا أهل التَّقوى فإذا وقع منه الخطأ، وقعتمنه المعصية، وقعتمنه الزلّة مباشرةً يتذكّر، يتذكّر ماذا؟
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ،هذا الذي فعل فاحشةً فعلة مُتزايدة في القُبْح: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، بعضهم يقول بالصَّغائر، أو أينوعٍ من أنواع الظُّلم، هذا قد يكون أعمّ: ظلموا أنفسَهم بفاحشةٍ، أو غيرها، فيكون من عطف العامِّ على الخاصِّ.
وذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ذكروا عقابَه، وذكروا عظمتَه،وذكروا وعيدَه، أو غير ذلك.
ويحتمل أن يكون الذكرُ باللِّسان الذي يكون مع مُواطأة القلب، هذه احتمالات ذكرها أهلُ العلم، وذكروا غير ذلك أيضًا، لكن قلوبهم حيَّة؛ بمجرد ما يحصل منه الخطأ والزلّة والمعصية؛ يفيق مباشرةً، يعرف أنَّه قد زلَّت قدمُه؛ فيرجع، ويتوب: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ طلبوا المغفرةَ، مع التوبة والعزم.
لِذُنُوبِهِمْ، فهذه لِذُنُوبِهِمْ تحتمل أن تكون اللَّامُ للتَّعليل، يعني: لأجل ذنوبهم، أو تكون للتَّعدية: استغفروا الله لذنوبهم.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ هذا استفهامٌ بمعنى الإنكار: لا أحدَ، بمعنى النَّفي، لا أحدَ يغفر الذنوبَ سوى الله -تبارك وتعالى.
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وهذا يكفي في بيان المراد، يعني: ليس المرادُ أنَّ الإنسانَ يعمل المعصية وهو يقول:سأتوضّأ وسأُصلي ركعتين، ويغفر لي، الأمر سهلٌ! يُقال: لا، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا ما يُبَيِّتُ أنَّه يرجع للمعصية؛ ولهذا فإنَّ الإصرارَ بمعنى المداومة،وترك التوبة، هذا كلّه يُقال له: إصرار، فهذا لا ينطبق عليه هذا الوصف، فهم لا يُصرُّون على ذلك.
قال: وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني: لم يُصرُّوا على قبيح فعلهم وهم يعلمون أنَّه معصية لله -تبارك وتعالى-، أو يعلمون جزاء الإصرار، أو غير ذلك من الاحتمالات والتَّقديرات التي ذكرها أهلُ العلم.
وقد قال كبيرُ المفسّرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-: بأنَّ الإصرارَ هو الإقامة على الذَّنب عامدًا، أو ترك التوبة منه[11].
فهؤلاء لا يستمرّون على ذلك وهم يعلمون أنَّه ذنبٌ، قد يستمرّ على شيءٍ ولا يعلم أنه ذنبٌ، فهذا غيرداخلٍ فيما ذكر.
وهذا الحديث يدلّ على استحباب الصَّلاة عند التوبة من الذَّنب.
هذا، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم توبةً نصوحًا، وأن يهدي قلوبنا، ويُسدد ألسنتنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.