إن مسألة أول واجب على المكلف بينة واضحة في دلالات نصوص الكتاب والسنة وسيرة الرسل وأتباعهم في دعوتهم الناس. إلا أن طوائف أهل الكلام قد خاضوا فيها بأمور بدعية أحدثوها لم ينزل بها كتاب ولا سنة، أطالوا البحث فيها للوصول إلى أمور ضرورية في النفوس، وأثمرت موقفا ضيقا تجاه الداخلين في هذا الدين أفواجًا، كما سيتضح عند عرض منهجهم ومناقشته إن شاء الله . .
ومن هنا كان لزاما على أهل السنة توضيح المنهج الحق والرد على كل من خالفه.
وفي هذا الفصل سأبين مذهب أهل السنة في هذه المسألة، ثم يكون الكلام على مذهب المتكلمين فيها مع عرض شبهاتهم والرد عليها.
المبحث الأول
أول واجب على المكلف عند أهل السنة والجماعة
لقد أرسل الله تعالى رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان، فكان مبدأ دعوتهم ومفتاح رسالتهم الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، كما قص الله تعالى عنهم أن مبدأ قولهم لأقوامهم : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: ۵۹]
فأول واجب على المكلف هو عبادة الله تعالى وحده، وعلى هذا اتفق علماء السلف كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (إن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ) (۱).
والأدلة على هذا الأمر كثيرة منها:
أولا: أن الله تعالى قد بين الغاية من خلق الجن والإنس وهي عبادته سبحانه وحده، فقال عز وجل : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاریات: ۵۹]، وفطر العباد على الإقرار به، فكان بدء الخطاب بلازم تلك الفطرة وهو العبادة، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]
ثانيا: أن الله تعالى قد قص في كتابه أنباء جمع من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبين أصل دعوتهم للناس ومبدأها، وباستقراء تلك القصص نجد التوافق في مبدأ تلك الدعوات وهو الأمر بعبادة الله تعالی وحده، فنجده يأتي ملازمًا لذكر الرسالة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال سبحانه : لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: ۵۹]، وهكذا الشأن في الرسل من بعده عليهم الصلاة والسلام.
ثالثا: أن الناظر في سيرة النبي يرى أنه كان يفتتح دعوته للناس بالأمر بالشهادتين، ودلائل هذا كثيرة جدا، ومن ذلك:
لما جاءه وفد عبد القيس وقالوا: (مُرْنا بأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ به مَن وراءَنا، ونَدْخُلْ به الجَنَّةَ، فأمرهم بالإيمان بالله وحده، قالَ: أتَدْرُونَ ما الإيمانُ باللَّهِ وحْدَهُ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصِيامُ رَمَضانَ، وأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ) (۳).
لما بعث ﷺ معاذًا إلى اليمن، قال له: (إنَّكَ تَقْدَمُ علَى قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في يَومِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم زَكَاةً في أمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِن غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ علَى فقِيرِهِمْ، فَإِذَا أقَرُّوا بذلكَ فَخُذْ منهمْ، وتَوَقَّ كَرَائِمَ أمْوَالِ النَّاسِ) (٤).
فالحديث صريح في مبدأ الدعوة وأول الواجبات، ولذلك جعل الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في أول كتاب التوحيد إشارة إلى هذا المعنى، والله أعلم.
أنه ﷺ لما أعطى الراية لعلي رضي الله عنه في غزوة خيبر أمره فقال: (انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ) (٥).
رسائله ﷺ إلى أهل الأمصار تبدأ بالأمر بدخول الإسلام، كما في رسالته إلى هرقل وفيها: (بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فإنِّي أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ، و{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيْنَنَا وبيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ به شيئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابا مِن دُونِ اللهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ}) (٦).
وعموما، فسيرته ﷺ دالة دلالة صريحة على بدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده.
رابعا: إجماع السلف على أن ما يدخل به المرء إلى الإسلام هو الشهادتان
قال ابن المنذر رحمه الله: (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد ﷺ حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام، وهو بالغ صحیح يعقل، أنه مسلم) (٧).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان) (۸).
ولا يقدح في هذا الإجماع ما يذكره بعض أصحاب المذاهب الأربعة ممن تأثر بعلم الكلام في نسبة القول بأن أول واجب على المكلف هو المعرفة والنظر إلى الأصحاب، ويعني به أصحاب المذهب، وهو في الحقيقة قول من تأثر به من أصحاب الكلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذة في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة ؟ صار كثير من المنتسبين إلى السنة، المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم، يوافقونهم على ذلك، ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه : (قال أصحابنا) و (اختلف أصحابنا)، فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام ..) (۹).
خامسا: أن تقرير أولية الشهادتين في الوجوب لا يعني إهمال مسألة المعرفة التي يجعلها أهل الكلام هي مبدأ الواجبات، بل إن من المسلمات الشرعية والعقلية أن معرفة الله والإقرار بوجوده أمر فطري مستقر في النفوس لا يخالف فيه إلا شواذ الناس عن كبر وعناد، فلذلك لم يتوجه الأمر به ابتداء لأنه من مسلمات ما تقر به الفطر والعقول.
فتوجه الأمر ابتداء إلى لازمه ومقتضاه وهو عبادة الله وحده لا شريك له.
إذا، فمما تقدم يتضح جليا مذهب أهل السنة والجماعة في أن أول ما يجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فالكافر أول ما يدخل الإسلام بذلك.
هذا بالنظر إلى ذات الواجب المراد تحقيقه وهو توحيد الله تعالی.
أما بالنظر إلى من يتعلق بهم الوجوب فهذا يختلف باختلاف أحوالهم.
فالكافر أول ما يجب عليه الشهادتان، والصبي إذا بلغ وقد نشأ مسلمًا موحدًا فيجب عليه عند التكليف ما لم يكن حققه قبله، فمن لم يحقق الطهارة فتكون أول الواجبات في حقه، وهكذا من لم يحقق الصلاة وقراءة الفاتحة ونحو ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه -موضحا ذلك -: (وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يجب على هذا ابتداءً ما لا يجب على هذا ابتداءً، فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها، وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهرًا، وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها.
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدًا بعد واحد، ليس هو أمرًا يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا، فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة، فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداء من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة، ونحو ذلك من واجباتها، أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا) (۱۰).