العطاء الذي اعطاه كعب بن مالك لمن بشره بالتوبة
شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (2)
قال العلامة ابن عثيمين – رحمه الله -:
فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لا بد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل.
وأذكر حديثًا قاله النبي- عليه الصلاة والسلام – في الذين يتقدمون إلى المسجد ولكن لا يتقدمون إلى الصف الأول، بل يكونون في مؤخَّره، قال: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ»
إذا عوَّد الإنسان نفسه على التأخير أخره الله عز وجل؛ فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين؛ إن تصدق المسلمون بكثير، قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم، قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك، كما سبق.
وقد ثبت عن النبي – عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلَهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ – أي: بما يعادل تمرة – كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ – أي: مُهْرَه: الحصان الصغير – حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»، وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل قال الرسول – عليه الصلاة والسلام -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ أي: نصف تمرة.
بل قال الله عز وجل: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع قافلًا من الغزو، بدأ يفكِّر ماذا يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله، ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي – عليه الصلاة والسلام – المدينة ذهب عنه كل ما جمعه من الباطل، وعزم على أن يبيِّن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الحق؛ يقول: فقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد – عليه الصلاة والسلام – وهكذا أمر جابرًا – رضي الله عنه – كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد، وصلى، وجلس للناس، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفر لهم، ولكن ذلك لا يفيدهم – والعياذ بالله – لأن الله قال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]، فيقول: أمَّا أنَا فعزمت أن أَصْدُق النبي – عليه الصلاة والسلام – وأُخبرَه بالصدق، فدخلت المسجد، فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب؛ أي: الذي غير راض عني – ثم قال: «تَعَالَ»، فلما دنوت منه، قال لي: «مَا خَلَّفَكَ؟».
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلًا؛ يعني: لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه؛ لأن الله أعطاني جدلًا – ولكني لا أحدثك اليوم حديثًا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. رضي الله عنه.
انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ.
فأخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالصدق، فأجَّله.
وفي هذا من الفوائد:
أولًا: أن الله سبحانه وتعالى قد يَمُنُّ على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حسن النية.
فإن كعبًا – رضي الله عنه – لما هَمَّ أن يُزَوِّر على الرسول – عليه الصلاة والسلام – جَلَّى الله ذلك عن قلبه، وأزاحه عن قلبه، وعزم على أن يَصْدُق النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان إذا قدم بلده، أن يعمد إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته، فيصلي فيه ركعتين؛ لأن هذه سُنَّة النبي – عليه الصلاة والسلام – القولية والفعلية؛ أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – حين باع على النبي -صلى الله عليه وسلم- جَمَلَه في أثناء الطريق، واستثنى أن يركبه إلى المدينة، وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطه، فقدم جابر المدينة، وقد قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- قبله فجاء إلى رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين.
وما أظن أحدًا من الناس اليوم – إلا قليلًا – يعمل هذه السُّنَّة، وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدني مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنة.
ثالثًا: أن كعب بن مالك – رضي الله عنه – رجل قوي الحجة، فصيح، ولكن لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحق.
رابعًا: أن الإنسان المغضب قد يتبسَّم، فإذا قال قائل: كيف أعرف أن هذا تبسم رضًا أو تبسم سخط؟
قلنا: إن هذا يُعرف بالقرائن؛ كتلون الوجه وتغيره.
فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تبسم رضًا بما صنع أو تبسم سخطًا عليه.
خامسًا: أنه يجوز للإنسان أن يُسلِّم قائمًا على القاعد؛ لأن كعبًا سلَّم وهو قائم، فقال له النبي – عليه الصلاة والسلام -: «تَعَالَ».
سادسًا: أن الكلام عن قرب أبلغ من الكلام عن بُعدٍ؛ فإنه كان بإمكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكلِّم كعب بن مالك ولو كان بعيدًا عنه، لكنه أمره أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والرد والمعاتبة؛ فلذلك قال له الرسول – عليه الصلاة والسلام -: «ادْنُ».
سابعًا: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه – حيث إنه قال: إنني أستطيع أن أخرج بعذر من الرسول – عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله عليَّ فيه غدًا.
ثامنًا: إن الله يعلم السر وأخفى؛ فإنَّ كعبًا خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول – عليه الصلاة والسلام – فينزل الله فيه قرآنًا، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلى الرسول – عليه الصلاة والسلام – تشكو زوجها حين ظاهر منها، فأنزل الله فيها آية من القرآن: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1].
يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه القول، وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ»؛ ويكفي له فخرًا أن وصفه النبي – عليه الصلاة والسلام – بالصدق: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَاذْهَبْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ مَا شَاءَ»؛ فذهب الرجل مستسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلحقه قوم من بني سلمه، من قومه، وجعلوا يُزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنبًا قبل هذا؛ يعني: مما تخلَّفْتَ به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا استغفر لك الرسول -صلى الله عليه وسلم- غفر الله لك، فارجع كذب نفسك؛ قل: إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول – عليه الصلاة والسلام – فيمن استغفر لهم ممن جاءوا يعتذرون إليه، فهَمَّ أن يفعل – رضي الله عنه – ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.
فسأل قومه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.
يقول: «فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أسوة».
أحيانًا يقيِّض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسيًا به.
فهو- رضي الله عنه – لَمَّا ذُكِر له هذان الرجلان – وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدرًا – فقال: «لي فيهما أسوة، فمضيتُ»؛ أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي – عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلِّموهم؛ فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام، وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا – لا يسلِّم عليهم السلام العادي.
يقول كعب: «كنت أحضر وأسلِّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري: أَحَرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا».
هذا وهو النبي – عليه الصلاة والسلام – وما ظنك برجل يُهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلًا ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يومًا؛ أي: شهرًا كاملًا وعشرين يومًا، والناس قد هجروهم، فلا يُسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا، وكأنهم في الناس إِبِلٌ جُرْبٌ لا يقربهم أحد.
فضاقت عليهم الأمور، وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.