اللهم ما امسى بي من نعمة
واصل الحديث في الكلام على أذكار الصباح والمساء، ومن ذلك ما جاء من حديث عبدالله بن غنام البياضي : أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمةٍ فمنك وحدك، لا شريكَ لك، فلك الحمد، ولك الشُّكر؛ فقد أدَّى شُكره يومه، ومَن قال مثل ذلك حين يُمسي فقد أدَّى شُكر ليلته[1].
هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنَّسائي في “عمل اليوم والليلة”، وفي غير اللَّفظ الذي عند أبي داود قال: اللهم ما أصبح بي من نعمةٍ -كما هنا- فمنك وحدك، لا شريكَ لك، هذا عند أبي داود، وعند النَّسائي في “عمل اليوم والليلة”: ما أصبح بي من نعمةٍ، أو بأحدٍ من خلقك، هذه الجملة ليست عند أبي داود.
هذا الحديث سكت عنه أبو داود؛ لكونه من قبيل الصَّالح للاحتجاج عنده، وقال عنه النَّووي: “إسناده جيدٌ”[2]، وحسَّنه الحافظ ابن حجر[3] -رحمه الله-، وضعَّفه الشيخ ناصر الدين الألباني[4] -رحم الله الجميع.
قوله: مَن قال حين يُصبح أي: حين يدخل في الصَّباح، اللهم أي: يا الله، ما أصبح بي من نعمةٍ، يحتمل أن يكون المعنى: ما أصبح بي من نعمةٍ يعني: ما حصل لي في الصَّباح، ما حلَّ بي في الصَّباح، ما وقع لي في الصَّباح، ما أصبح بي من نعمةٍ، ما نزل بي من النِّعَم في هذا الصباح: فمنك وحدك، لا شريكَ لك.
ويحتمل أن يكون المعنى أنَّه ما أصبح مُتَّصلًا بي، يعني: مما كان فيه العبدُ من النِّعَم، واستمرَّ معه إلى أن دخل في الصَّباح.
وهذان المعنيان لا إشكالَ فيهما؛ فإنَّ ما وقع للعبد من النِّعَم المستجدّة في الصباح، أو في المساء، كلّه من الله -تبارك وتعالى-.
وكذلك ما يستصحبه من النِّعَم التي تستمرّ معه حتى يُصبح، أو تكون معه حينما يُصبح إلى أن يدخل في المساء، فهذا كلّه من الله -تبارك وتعالى-، والنِّعَم -نِعَم الله تبارك وتعالى- تترى على العباد، والصَّباح والمساء ظرفان تقع فيهما الوقائع والحوادث من المحبوبات والمكروهات، فما يقع للعبد من النِّعَم الدنيوية والأُخروية مما يستجدّ له كلّه من الله، وما يستصحبه فهو من الله -تبارك وتعالى.
فالعبد في هذا المقام يُقرّ لربِّه ومليكه وخالقه المنعم المتفضّل -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه- بذلك كلِّه، ومن هنا فلا حاجةَ إلى الترجيح بين المعنيين؛ فذلك جميعًا من الله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، سواء كانت هذه مما استجدَّ في الصباح، أو مما استصحبه مما كان في ليلته، أو في يومه الذي قبله.
ولو تأمّل العبدُ أحوالَه وما يسوقه اللهُ -تبارك وتعالى- إليه من الهدايات والألطاف الربانية، والعلوم النَّافعة والمعارف، بالإضافة إلى النِّعَم التي حباه الله بها في بدنه من العافية التي لا يعرفها إلا مَن فقدها، أو فقد شيئًا منها، ومَن كان في شكٍّ أو مريةٍ فليذهب إلى أقرب مُستشفى، ولينظر إلى أحوال الناس، وتنوع العلل والأمراض التي يُعانونها، وقد عافانا الله من ذلك، فهذه نعمةٌ، ولكننا لا نستشعرها إلا عند فقدها.
وكذلك أيضًا النِّعم الأخرى مما نُلابسه، هذه النِّعَم من المطعوم والمشروب، والنِّعَم التي يُعطينا الله من الأموال والأولاد، إلى غير ذلك مما يقع للعباد، يعرفون قليلًا منه، ويجهلون أكثره: هذا الهواء هو نعمةٌ عظيمةٌ، لا يعرفها إلا مَن فقد نعمةَ النَّفَس كما يتنفَّسه الأصحّاء، فيحتاج إلى مُعالجاتٍ من أجل أن يستطيع أن يتنفَّس، وأن يجد بعضَ حاجته في هذا السَّبيل.
فهذه أشياء حينما يقع للإنسان خللٌ فيها تكون عنده ثقافةٌ واسعةٌ، يكون عند أهله وذويه وقرابته من معرفة هذا اللون من الاعتلال الشَّيء الكثير مما كانوا لا يعرفونه، ولم يسمعوا به، لكنَّها نِعَمٌ غائبةٌ عن أبصارنا، نعرفها عند انعدامها، أو فقدها، أو ضعفها.
فنسأل الله أن يُسبغ علينا وعليكم وعلى إخواننا المسلمين نِعَمَه، ظاهرةً وباطنةً، وأن يرزقنا شُكرها.
ما أصبح بي من نعمةٍ دنيوية أو أُخروية، ظاهرة أو باطنة، وفي اللَّفظ الآخر عند غير أبي داود: أو بأحدٍ من خلقك، أو هذه يمكن أن تكون للتَّنويع: أو بأحدٍ من خلقك يعني: بي أو بأحدٍ من خلقك، هذه النِّعَم منها ما يحصل للعبد، ومنها ما يحصل لغيره، أو أنَّ المقصود التَّعميم، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-.
هذه النِّعَم التي تحصل للإنسان، وتحصل لعموم الخلائق، كلّ ذلك من الله وحده دون ما سواه: أو بأحدٍ من خلقك، فمنك وحدك، لا شريكَ لك، منك وحدك، حاصلٌ منك على سبيل التَّفرد دون شريكٍ، ولا مُعينٍ.
فلك الحمد، ولك الشُّكر فالمحامد تُضاف إليك، والشُّكر؛ وهو ما يكون على مُقابلة الجميل الاختياري بالقول باللِّسان والقلب والجوارح؛ باللسان حينما يلهج اللسانُ بحمد الله، وشُكره، وذكره، وكذلك أيضًا بالقلب حينما يستحضر هذا الإفضالَ والإنعام، فلا يكون قلبُه غافلًا عنه، حينما يرى الإنسانُ ما أعطاه الله ، وأصبح مُعافًى؛ يستحضر هذه النِّعمة، ويقول: (الحمد لله)، من الناس مَن لا يقوم من فراشه، قطرة صغيرة من الدَّم تتوقف في عرقٍ في دماغٍ، في قلبٍ، في رئةٍ، قد يتحول هذا الإنسانُ إلى شيءٍ آخر، قد يموت من ساعته، وقد يتحول إلى ما يُشبه الجثة؛ لا تتحرك به يدٌ، ولا رِجْلٌ.
فهذه نِعَمٌ أنعم الله علينا بها؛ عافانا، وقل مثل ذلك في أنواع النِّعَم التي نُشاهدها أمام هذه الأطعمة المتنوعة من أقطار الدنيا، من المشرق والمغرب، قد نعرف أسماء بعضها، وبعضها لا نعرفه، أليست هذه نعمةً عظيمةً جدًّا؟! أصبحنا بعد أن كان أجدادنا قد لا يجدون تمرةً يتبلَّغون بها إلى المساء، لا يجدون شيئًا.
الإمام أحمد -رحمه الله- كان خرج مع الناس في اللّقاط[5]، يعني: بعد الحصاد يتساقط الحبُّ في الأرض، فيخرجون يلتقطون هذا الحبَّ، يخرج الفُقراء، فخرج الإمامُ أحمد معهم لعله يجد ملء كفٍّ من الحبِّ من الحنطة، ثم رجع، ولم يمكث، فسُئل، فذكر أنَّه رأى شيئًا يكرهه؛ الحبُّ هنا حبَّة، وهناك حبَّة، ويجتمع الفُقراء، فبدلًا من أن يقوم ويجلس الواحدُ منهم، صاروا يمشون في الحقل على أربعٍ كأنَّهم بهائم، فلمَّا رأى هذا المشهد، رأى هذا المكان، هذه المزرعة، والناس فيها يمشون على أربعٍ، كره هذا المشهد ورجع.
إمام الدنيا الإمام أحمد يخرج للّقاط! لا يجدون شيئًا، وهذا إلى عهدٍ قريبٍ، والآن لو ذهب الإنسانُ إلى أقرب ما يليه من الأسواق التي تستجمع أنواع المطعومات التي تُوجد في أنحاء المعمورة؛ فإنَّه قد لا يردّه إلا نفسُه، مَن منا نحن الذين في المسجد..، أنا أعلم في المسلمين حاجةً ومسغبةً، ومنهم مَن لا يجد ما يُقيم صلبَه، أعلم هذا، ولا أقيس الناسَ على حالنا، لكن نحن الذين في المسجد مَن منا يبيت أولادُه وهم جوعى، يبيتون وهم يتضاغون من الجوع؟ لا يوجد، نحن في نعمةٍ سابغةٍ، وإن كان الناسُ يتفاضلون، لكن هذا التَّفاضل في العطاء الدّنيوي فيما زاد عن قدر الحاجة إنما هو زيادة في الحساب، وله تبعات كما لا يخفى، لكن مَن أصبح آمنًا في سربه، مُعافًى في بدنه، عنده قوت يومه، كأنما حِيزت له الدُّنيا[6]، رزق الغد يأتي مع الغد، الله الذي خلقه لن يُضيعه.
فالمقصود أنَّ العبدَ ينبغي أن يستحضر، فإذا رأى مثلَ هذا الماء البارد، هذا الماء النَّقي، هذا الماء النَّظيف؛ يستحضر هذه النِّعمة، فإلى عهدٍ قريبٍ كان الناسُ يشربون من أماكن نعتبرها الآن غير صحيَّةٍ، ومُستنقعات، وبعوضٍ، وأمراض، وإذا رأوها، اقرؤوا أشعارَ العرب:
صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمول[7].
في (بانت سعاد)، يعني: هذا الماء إذا أفضوا إليه في أسفارهم، وفي تقلُّبهم، وذهابهم، ومجيئهم، عندهم أنَّ هذا مُنتهى في اللَّذة والأُنس، تطرب أبصارُهم حينما يرون هذا المستنقع، ولربما شربوا من الآبار، ويضع الواحدُ منهم طرفَ عمامته؛ لما فيها من الكدر والطِّين والحشرات، اقرؤوا كلامَ أهل العلم؛ شيخ الإسلام[8] حينما تكلَّم عن العفو عن يسير النَّجاسات مما تعمّ به البلوى، ولا يمكن التَّحرز منه، مثل: بعر الفأر في الدَّقيق، يقول: هذا لا يمكن التَّحرز منه، تعمّ به البلوى.
فالآن هذا لو وُجد تُعتبر هذه كارثة عند الناس، أليس كذلك؟
لأنَّ النِّعَم صارت ضافيةً، بينما عندهم في السَّابق أنَّ هذا مما تعمّ به البلوى، ويُعفى عنها؛ بعر الفأر لا أثرَ له مثل هذا.
وحينما نجلس أمام موائد، حينما ننظر إلى الثياب التي عندنا، هذه الثياب الكثيرة المتنوعة، هذه نِعَمٌ، أصحاب النبي ﷺ منهم مَن كان لا يجد إلا إزارًا، ولا يجد رداءً، وقال النبي ﷺ: أولكلٍّ منكم ثوبان؟[9]، يعني: إزار ورداء، في مسألة ستر العاتق في الصَّلاة.
فهنا يستحضر العبدُ نِعَم الله عليه الظَّاهرة والباطنة، وهذا يدعو إلى مزيدٍ من العبادة والإقبال على الله ، والتَّواضع للخلق، والخضوع لربِّه وخالقه ، ولا يتعاظم، ولا تُورثه هذه النِّعَم البطر والأشر؛ فيكون مُقابلًا هذه النِّعَم بالجحود والطُّغيان، فهذا لا يليق بالمؤمن.
وهنا قال: ومَن قال مثل ذلك حين يُمسي، يعني يقول: اللهم ما أمسي بي من نعمةٍ، أو بأحدٍ من خلقك، فمنك وحدك، لا شريكَ لك، فلك الحمد، ولك الشُّكر؛ فقد أدَّى شُكر ليلته.
فهذا الحديث فيه فضيلةٌ عظيمةٌ، ومنقبةٌ كريمةٌ كما يقول الشَّوكاني[10] -رحمه الله-؛ حيث تكون تأديةُ واجب الشُّكر بهذه الألفاظ اليسيرة القليلة، وأنَّ قائلها صباحًا قد شكر يومه، وقائلها مساءً قد أدَّى شُكر ليلته، مع أنَّ الله تعالى يقول: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وإذا كانت النِّعَم لا يمكن إحصاؤها، فكيف يستطيع العبدُ أن يشكرها؟!
فله الحمد، وله الشُّكر، هذا من نِعَمِه -تبارك وتعالى-، عبارة قصيرة، جملة قصيرة إذا قالها يكون قد أدَّى شُكر يومه، أدَّى شُكر ليلته.
ويقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-: “كلّ ما بالخلق من النِّعَم فمنه وحده، لا شريكَ له؛ ولهذا فهو سبحانه يجمع بين الشُّكر والتوحيد”[11]، لاحظ: ما أصبح بي من نعمةٍ، أو بأحدٍ من خلقك، فمنك وحدك، لا شريكَ لك، فلك الحمد، فذكر التوحيد، وذكر الحمد.
يقول شيخُ الإسلام: ولهذا هو سبحانه يجمع بين الشُّكر والتوحيد، ففي الصَّلاة أول الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وفي أوسطها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، هذا التوحيد، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وهكذا: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65]، هذا توحيدٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65]، هذا الحمد، فقرن بينهما.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الحامدين، الشَّاكرين، الذَّاكرين، وأن يُلهمنا وأن يُوزعنا شُكر نِعَمِه، وأن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا دَيْنًا إلا قضيتَه، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعنتنا على قضائها ويسَّرتها برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5073)، والنَّسائي في “عمل اليوم والليلة”، برقم (7)، وضعَّفه الألباني في “ضعيف الجامع”، برقم (5730).