المحتويات
قصيدة عن النكبة الفلسطينية 1948
تعد فلسطين «الجرح المفتوح، في قلب هذا العالم المريض، الذي يسكننا اليوم بآهاته». و لما كان الاقتراب من المرض، أو الحزن، أو الجرح، غير متيسّر إلا بالحب، أو الدواء، و كان الشعر، على الدوام، شكلاً من أشكال الحب، فإن معنى اقتراب الشعراء من فلسطين وطناً وشعباً ومقاومة، يعد فعلاً إنسانياً مقاوماً، يُكسِّبُ صاحبه صفة الفارس النبيل..
يقول هنري ميللر: «في الشاعر تتخفّى ينابيع الفعل»، وانطلاقاً من يقين نورانيّ له جوهره ومعناه العميق بجدوى الشعر في عالمنا الطاعن بالخراب والدم والألم؛ فإنني أتفق مع من يرى أن الشعراء، ضروريون حقاً في هذا العالم وفي هذا الوجود؛ لأنهم أكثر انتباهاً من الآخرين إلى «الظلّ الذي لا ينتهي»، ولأنه «ما يبقى يؤسّسه الشعراء» ـ حسب تعبير هولدرلين ـ.
في هذه المختارات الشعرية التي نقدمها للقارئ الكريم، نسعى إلى الاقتراب من عوالم شعراء من شتى أصقاع المعمورة، جمعهم نبلٌ إنسانيٌ، وأهدافٌ ساميةٌ منها نصرة الحق الفلسطيني، ورفض الظلم والطغيان الصهيوني، وتمجيد روح النضال الوطني الفلسطيني..
قصيدة عن النكبة الفلسطينية 1948 محمود درويش
الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، كان أول الفرسان النبلاء، من الذين صاغوا بكلماتهم المقاتلة، روح الحق الفلسطيني، يقول سيد الكلام في رائعته «عابرون في كلام عابر»:
أيها المارون بين الكلمات العابرةاحملوا أسماءكم، وانصرفواواسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرةوخذوا ما شئتم من صور ، كي تعرفواأنكم لن تعرفواكيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء***أيها المارون بين الكلمات العابرةكدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفواوأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدسأو إلى توقيت موسيقى مسدس!فلنا ما ليس يرضيكم هنا ، فانصرفواولنا ما ليس فيكم، وطن ينزف شعبا ينزفوطنا يصلح للنسيان او للذاكرة..أيها المارون بين الكلمات العابرة،آن أن تنصرفواوتقيموا أينما شئتم ، ولكن لا تموتوا بيننافلنا في أرضنا ما نعملولنا الماضي هناولنا صوت الحياة الأولولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبلولنا الدنيا هنا… والآخرةفاخرجوا من أرضنامن برنا.. من بحرنامن قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنامن كل شيء ، واخرجوامن ذكريات الذاكرةأيها المارون بين الكلمات العابرة!..
وفي قصيدته «ثلاثية أطفال الحجارة»، يتباهى شاعرنا الكبير الراحل نزار قباني، ببطولات وشموخ أطفال غزة، قائلاً:
بهروا الدنياوما في يدهم إلا الحجارةوأضاءوا كالقناديلوجاءوا كالبشارةقاومواوانفجرواواستشهدوا***يا تلاميذ غزةلا تعودوالكتاباتنا ولا تقرأونانحن آباؤكمفلا تشبهونانحن أصنامكمفلا تعبدونانتعاطىالقات السياسيوالقمعونبني مقابراًوسجوناحررونامن عقدة الخوف فيناواطردوامن رؤوسنا الأفيوناعلمونافن التشبث بالأرضولا تتركواالمسيح حزينايا أحباءنا الصغارسلاماًجعل الله يومكمياسمينامن شقوق الأرض الخرابطلعتموزرعتم جراحنانسريناهذه ثورة الدفاتروالحبرفكونوا على الشفاهلحوناأمطرونابطولة وشموخاواغسلونا من قبحنااغسلونالا تخافوا موسىولا سحر موسىواستعدوالتقطفوا الزيتوناإن هذا العصر اليهوديوهمسوف ينهارلو ملكنا اليقينايا مجانين غزةألف أهلابالمجانينإن هم حررونا
ويوصينا الشاعر المصري الكبير الراحل أمل دنقل، بأن لا نصالح عدواً قاتلاً، قائلاً لنا في قصيدته «لا تصالح»:
لا تصالح على الدم …. حتى بدملا تصالح ولو قيل رأ س برأسأكل الرؤوس سواء ؟أقلب الغريب كقلب أخيك ؟أعيناه عينا أخيك ؟وهل تساوى يد … سيفها كان لكبيد سيفها أثكلك ؟سيقولون :جئناك كي تحقن الدمجئناك كن – يا أمير – الحكمسيقولون :ها نحن أبناء عمقل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلكواغرس السيف في جبهة الصحراءإلى أن يجيب العدمإنني كنت لكفارساً وأخاً وأباً وملك
ونقرأ للشاعر الكردي رمزي عقراوي قصيدة بعنوان «يا ابن فلسطين»، جاء فيها:
أيها البطل…يا شهيد غزة…تعنو لك الشهب!قضيت من أجل السلم والسلاموأنت تعلم أن مركبه صعب!فتعظيم حق ذقت من أجله الموتكتعظيم يوم فيه وقع الخطب!!سخرت باعباء الحياة ولم يكنليفنى عليها سعيك الواسع الرحبستبقى من الأحياء طول الزمانمادمت تاركاً مبادئ حر ليس يخذلها الشعبولايذبل الغرس الذي قد سقيتهدماك ويبقى الدهر وهو بها رطب!!ففي فلسطين وقف الصهيون المطلبرأسه يرى عجباً إنها مرتع خصب!وأنت تضرب كفا بكف قائلا:أأترك الصهاينة في فلسطين يصفوا لهم أكل وشرب ؟!لقد سار نور الوعي في ضمائر الفلسطينيينعزيزاً يغني تحت أنواره الركب؟!ماَرب توليها الشعوب رعاية …لتبلغها حتماً- ولو رفض الغربوإن بقيت منه المطامع تبتغيدروباً فما غير الفناء لها درب ؟!يا ابن فلسطين …
ويتأسى الشاعر التركي كامل آي دمير في قصيدة له بعنوان «أنشودة إلى أطفال فلسطين»، على الوضع المحزن في فلسطين ويشير إلى الموت الذي يترصد كل يوم بالفلسطينيين، يقول دمير في قصيدته التي ترجمها الأستاذ عبد العزيز محمد عوض الله:
في مرآة الوحشيةتكسر الأذرعبالحجارةوميت في كل يومميت في كل يومولا يسئم ولا يشبعنسل ( هتلر )من بحيرات الدمفى شوارع فلسطين***أيتها الطيورفي زمن النحيب هلا تصمتينوأيتها العواصفبالطائرات الورقية الا تعبثينفليكن الرصاصمن نصيب الخونةالذي يمشون أمامكمولتتخلصوامما يطلقون عليه اسم الحريةولتتعلموا أيها الأطفالالضرب بالقنابل
ومن قصيدة «فلسطين، أنتِ حبَّي»، للشاعر الكوبي بدرو أوسكار غودينيث، والتي ترجمها من الاسبانية إلى العربية الأكاديمي الفلسطيني الدكتور عبد الجعيدي، نقرأ:
عندما يعود سيف صلاح الدين العظيميشدو منتصراً في أرض كنعان كلهاوتُمرَّغ وجوه فرنجة صهيون الجددفي التراب تحت النظرةالمجردة في قفار العزلة القاتلةلأنَّ الروح الفلسطينية واحدةكوردة أريحا المتألقةوجمع هي السواعد المقاوِمةمستعدة لنشر ملاطفات فدائية دافئةعلى البندقية الفاديةالتي يتخلل الفجرُ نيرانَهالتضيء الدرب، من جديدإلى قدس المستقبل.
أما الشاعر الاسباني خابير بيان، فقد كتب قصيدة أهداه «إلى شعراء المقاومة الفلسطينية، عنوانها «نشيد الختام»، ترجمها أيضاً الدكتور الجعيدي، يقول فيها:
بيت القصيد ليس حساماً يجعل الجرح يئن.بيت القصيد كلمات طريدة هاربةمنثورة على أقطاب المعمورة الأربعة.بيت القصيد هو الغضب أو النحيب.يا درويش وفدوى طوقانيا جبران وزياد والقاسممن أجل فلسطين تبكونوسيل الدموع يخصب الضمائر ويرفع البيارق.الاستعارات ثائرة وقواعد النحو ساخطةتزجر الغازي اللئيم وتلعنه.بيت القصيد ليس حساماً أو قذيفةً أو رصاصة.هو بيت قصيد وضمير مُثقل.بين حقول الزيتون المسمدة بالبارودمن صوتكم يقصف رعدنا الساهد.أفواه تنزف الدم كسيل التيارطير يحلق وبمنقاره غصن الزيتونوبقبضته بندقية، وتحت الأجنحة قنبلة.
ونقرأ للشاعرة والكاتبة الاسترالية ديبورا رويز وول، قصيدة بعنوان« رثاء غزة»، ترجمها الأديب السوري عمار توكلنا، جاء فيها:
لقد أعلنَ الناصحونَ الأصليونَأنَّ”الأرضَ هي الحياةُ”لكنني أرى الآنَ نقيضَ ذلكعندما تتوسَّل العيونُ المعذَّبةوتُعادُ رواية القصصِ ذاتِ الوجهينمرةً بعد مرةتُرَدّدُها القبائلُ المُشَتتةُحيثُ يلتئمُ الماضي والحاضرُوالمستقبلُ في حربِ العقوبةِلأن الأرضَ في فلسطينَ تُساوي المَوْتليس الكلامُ رخيصاً, فإن آلةَ الحربِالتي تُسْكتُ همس أحلامَنا الأرضيةَسوف تُبقينا جميعاً ضِمنَ السلاسلِبعيداً عنِ الوصولِ إلى اكتمالِإنسانيتنا, بعيداً عن تَوحُدِنامع قدسيةِ الحياةِ كلِّها
ومن أسكوتلندا نقرأ للشاعرة تيسّا رانسفورد المولودة في الهند، وهي الرئيسة السابقة لجمعية الكتاب والشعراء الأسكوتلنديين، مقاطع من قصيدة بعنوان «إسمعي يا إسرائيل»، ترجمها الشاعر الفلسطيني إياد حياتله، تقول رانسفورد:
العين بالعين والسنّ بالسنكمْ طفلا تقتلين يا إسرائيلثأراً لعينٍ واحدهكم تُشَوّهين وتُجَوّعينثأراً لسنٍّ واحدهْ؟عندما قَتلَ حيرود أطفال بيت لحمدون معرفة أيّهم الذي عَبده الحُكماءلقد سُمِّيَت، ولا تزالُ تُسَمّىمجزرة الأبرياء.تلك الوحشيّة لم تنجحولم تستطع منعَ عيسى من أن يكون المسيحهوَ الذي نَصحنا بأنّ نحبَّ أعداءَناوأنت تعرفينَ يا إسرائيلأنتِ تعرفينَأنّ أطفالكِ لن يكونوا آمنينما لمْ تحقّقي الرحمة والعدالهْ.
وفي قصيدته «في عزلة مع الشعب الفلسطيني»، التي ترجمتها عن الإنجليزية الأستاذة ريم الدخيل، يقول الشاعر الأمريكي بلاك وينغ اكس، وهو اسم رمزي للشاعر ويعني «الجناح الأسود»:
الذين يعترفون بأنهم لا يتورعون عن شيء وأن لا أخلاق لهم تمنعهم عن شيءالذين لا يترددون في تشويه وقتل العرب من أي جنس أو عمربالإضافة إلى الجنسيات الأخرى من حول العالم ممن يشهدون جرائمهم ضد الإنسانيةأبطالاً مثل الشابة اللطيفة الحساسة رايتشل كوري التي ننعي قتلها بحزن بالغالتي وقفت عزلاء تحاول أن تدافع و توثق للعالم أجمع قصةً مأساةعن جريمة تدمير الاحتلال الشنيعة لبيتٍ فلسطينيودفعت رايتشل أغلى ثمن دفاعاً عن ذلك … حياتها اللطيفة الغالية .. الغاليةفيما رفاقها الغاضبون يشاركون في مسيرات تدعو لعدم العنفويتظاهرون من أجل السلام و العدالةويجرؤن على الصياح بأعلى أصواتهم ومن كل قلبهملا لنتنياهولا للحائط العنصريلا للبانتستوناتلا لإسرائيل
ومن الجمهورية القرغيزية نقرأ قصيدة للشاعر نارمامات إكراموف، بعنوان «إلى صديقي الفلسطيني»، يقول فيها:
دخل قوم إلى أرض الأقصى، وهم الذين لم تقبل بهم الأرض بما رحبتالذين صارت قلوبهم سوداء، وامتلأ قلبهم بالصدأأنا ما وجدت مثيلهم في العالمعجباً كيف لا يخافون من جبروت الله!***خرج الكبار أولاً ليواجهوا العدوحتى النساء بأصواتهن المرتفعة التي تعلن خروج العدوحتى الصغار خرجوا بسرعة حاملين الحجارة ليصدّوا الدبابات***طارت الطائرات الحربية فوق فلسطين أياماً وأكثروا التفجير والتهديم. رأيته بعينيفجأة خرجت الأم حاملة الطفل في يدهاباكية أولادها الذين بقوا تحد الأنقاض***عندما جاء جنود اليهود أخرجوا رؤوسهم فوق الدبابةفجأة طلع أحد المجاهدين من تحت الأرض وضرب بالسلاحولم يخطئ رأس العدو.
يا قدس جئتك هذا اليوم معتذرا
ومستعيذا…………..فان الظلم كالظلم
وبعد ان وجه الاعراب قبلتهم
كاتباع من الحشم
وبعدما استفلحت امراض امتتنا
بين التقاعس والترميل واليتم
اشكوك قومي وقد باعو قضيتهم
وجردونا من الانساب والقيم
منك السلام ومنك الحرب القادمه
يا قدس يا حرما يا ثالث الحرم
السلام عليكم
قرأت اسماء شعراء من دول اوروبيه في موضوعكم عن شعر النكبه وانا دخلت لموقع ديوان العرب ابحث عن قصيدة قديمه لشاعر فلسطيني كنت قد قرأتها في كتاب قديم كان موجود لدي ولا اعرف اين اختفى ولكن من حبي للشعر وخاصة السياسي منه حفظت بعض الابيات اما الشاعر وهو مصطفى زيد الكيلاني فلم يتطرق له اي موقع من المواقع التي بحثت بها والقصيده اسمها من وحي النكبه والفها في العام 1947 ومن ابياتها
بنوا العرب ما للسيف في كفكم نبا
فما اضيع الامال فيكم واخيبا
رضيتم باصفاد العبيد فيا لها
عبودية يرضى بها العرب مذهبا
ايعرب يدري ان غدوتم اذلة
لعمري لقد سودتموا وجه يعربا
فلا تدعوا فينا بنوة يعرب
اعوذ بربي ان يكون لكم ابا
بنوا العرب قد برأت منكم محمدا
فما كان الا ثابت الجأش اغلبا
فلا تحشروا الفاروقفيكم وخالدا
وخلوا عليا يقرع البيض والظبا
اولئك قوم لم تفل سيوفهم
ولم يبتغوا الا ذرى المجد مطلبا
يمينا لقد نال الزعامة فيكموا
اناس تفشوا في العروبة كالوبا
تعدونهم غب الحوادث رؤسا
وان تنصفوا كانوا ذيولا واذنبا
هم سلموا الجزار غدرا رؤوسكم
وانتم نيام وما ندرون ما النبا
نكبة فلسطين في الشعر
قبل عقود عدة من وقوع النكبة، كان الشعر هو الأقدر وجدانيا داخل الحركة الأدبية الفلسطينية، على التنبؤ بها والتحذير الصارخ منها. وحين تم هذا الوقوع المدوي في العام ،1948 بنشوء إسرائيل فعليا على الأرض التي هُجّر وشُرّد أو قتل وأبيد سكانها ومواطنوها الفلسطينيون، كان الشعر ذاته مرة أخرى، هو الأسرع والأكثر استجابة للأحداث المتفجرة، من بقية أشكال الأدب، في الاشتعال التراجيدي بالغضب وشحذ الهمم ضد النكبة، وضد الغزاة المغتصبين وأعوانهم وحلفائهم.
إلى ذلك، لا بد من العودة إلى تلك الشعرية الفلسطينية العميقة والمهمة بنبوءتها المبكرة، وصولاً بنا على ضوء مشاعلها القديمة، إلى الشعرية التي واجهت النكبة وعاشتها بأدق تفاصيلها الميدانية، وقد تحولت أمامها إلى واقع مادي يفرض جريمته الكبرى على كل شيء.
من أهم الشعراء الذين برزوا قبل النكبة، وتنبأوا بها، إبراهيم طوقان (1901- 1945)، وعبد الرحيم محمود (1913-1948)، وقد كانت قصائدهما الوطنية على شفاه جميع المواطنين الفلسطينيين وملء صدورهم، قبل العام 1948 وهي تعبر عن وجدانهم الجمعي في حتمية التنبه الشديد للخطر الصهيوني الاستعماري وضرورة مواجهته ومقاومته في بواكير تحركه العدواني، حتى لا يتحول إلى أخطبوط استيطاني ضخم يستولي على كل البلاد. ولم يفقد معظم تلك القصائد حيويته في الذاكرة الثقافية الفلسطينية إلى حينه، متواصلا من جيل إلى جيل، بسبب ما اشتمل عليه من صدق عميق، ومن شجاعة وطنية، ووعي مستقبلي مبهر لم ينطفئ أو ينكسر تحت ما كان سائدا بين زعماء وحكام تلك المرحلة من شعارات مضللة.
في قصيدته مناهج التي لا تتجاوز الأبيات السبعة فقط، يصرخ الشاعر إبراهيم طوقان بنبوءته المفزعة في العام ،1935 وكأنه في مخيلته الشعرية النفاذة، يرفع الغطاء كله عن النكبة قبل وقوعها بثلاث عشرة سنة:
أمامك أيها العربيّ يوم
تشيب لهوله سودُ النواصي
وأنت كما عهدتك لا تبالي
بغير مظاهر العبث الرخاص
مصيرك بات يلمسه الأداني
وسار حديثه بين الأقاصي
فلا رحب القصور غداً بباق
لساكنها ولا ضيق الخصاص
لنا خصمان: ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصوا بينهم فأتى وبالا
وإذلالا لنا ذاك التواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
والخصمان هما الصهيونية والاستعمار البريطاني، أو الانتداب البريطاني على فلسطين آنذاك، والذي تواصى مع الصهيونية في تنفيذ وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور في العام ،1917 لإنشاء ما أسماه بالزيف والغزو والاغتصاب الوطن القومي لليهود في فلسطين. فهل اختلف الخصمان بعد كل هذه العقود، ولو حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا، بخاصة وأن المناهج الجارية هي ذاتها الحاصلة من قديم إلى جديد، تارة بالحسنى المفاوضات السياسية، وتارة بالرصاص القتل والتدمير، وكلها في الحالين، تهدف وتعمل للاستيلاء على الأرض، وإبادة وتشريد أهلها الأصليين، لمصلحة المحتلين والمستعمرين الغزاة؟
وطوقان في مواجهة هذه المناهج لا يجد سوى شاعريته الحية يأوي إليها بالتغني الصادق والحار بالشهداء والفدائيين من جهة (قصائده: الثلاثاء الحمراء، الشهيد، الفدائي)، وبالسخرية الحادة من زعماء تلك الأيام من جهة ثانية، فيطالبهم بالتنحي قبل ضياع كل القضية:
أنتم المخلصون للوطنية
أنتم الحاملون عبء القضية
ما جحدنا أفضالكم غير أنا
لم تزل في نفوسنا أمنية
في يدينا بقية من بلاد
فاستريحوا كيلا تطير البقية
أما الشاعر عبد الرحيم محمود فإنه يجد إلى جانب هذه الشاعرية القوية والملهمة ذاتها، قدرته الذاتية الفذة على المشاركة فعليا بالثورة المسلحة ضد الأعداء، فيستقيل من وظيفته كمعلم في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وينخرط في صفوف المجاهدين، ليستشهد في معركة الشجرة بين طبريا والناصرة في 13 تموز/يوليو 1948 بعد إعلان نشوء إسرائيل بشهرين فقط، وبعدما كانت قصائده تعم البلاد كلها، بما فيها قصيدته المذهلة التي كان تنبأ فيها بسقوط المسجد الأقصى في مخالب الاحتلال الإسرائيلي.
وفي 18/8/1935 كتب عبدالرحيم محمود قصيدته نجم السعود التي يستقبل بها الأمير سعود بن عبد العزيز وهو في طريقه إلى زيارة بيت المقدس (القدس) في ذلك اليوم، والتي اشتملت على تلك النبوءة المفجعة:
المسجد الأقصى أجئتَ تزوره
أم جئتَ من قبل الضياع تودعه
حرم يباح لكل أوكع آبق
ولكلّ أفاق شريد أربعه
وغدا، وما أدناه، لا يبقى سوى
دمع لنا يهمي، وسن نقرعه
اخترقت نبوءة هذا الشاعر الشهيد الزمن كله، من نكبة العام 1948 إلى هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 والتي فيها على وجه التحديد، سقط المسجد الأقصى تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو ضاع حسب تعبيره. فأي هول جارف في عبقرية هذا الشعر، على الاستشراف والمعرفة المستقبلية؟
أما بعد النكبة، فقد برز كثير من الشعراء الفلسطينيين والعرب، وهم يحملون في لهب قصائدهم، معاني حتمية العودة إلى الوطن السليب، ومعاني التصدي والصمود والثورة ضد المحتلين والمستعمرين، وضد المتواطئين والمتخاذلين. غير أن الشاعرين الفلسطينيين عبد الكريم الكرمي الملقب بأبي سلمى (1910-1980) وخليل زقطان (1930-1980)، كانا الأوسع انتشارا من غيرهما، على المستوى الفلسطيني في السنوات الخمس الأولى بعد النكبة على الأقل، ثم على المستوى العربي أيضا بالنسبة لعبدالكريم الكرمي، في السنوات اللاحقة.
عن مطبعة دار الأيتام في القدس، في العام ،1953 صدرت للشاعر خليل زقطان مجموعته الشعرية الأولى، تحت عنوان غير مألوف أو غير عادي، هو صوت الجياع. والواقع أن تلك المرحلة بأكملها، كانت غير مألوفة وغير عادية بوقوع النكبة التي زلزلت التاريخ العربي كله. فهل يمكن للشعر الوطني بالتالي، إلا أن يكون صدى مجلجلا لهذا الواقع، أو لهذه الزلزلة؟ وأي صدى أعمق من صوت الجياع اللاجئين الفلسطينيين الذين تناثروا في مخيمات البؤس والجوع والغضب والأحزان، بخاصة وأن هذا الشاعر نفسه واحد منهم، وجد نفسه فجأة في أحد هذه المخيمات التي أقيمت على عجل، على أطراف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أطراف بعض مدن هذا القطر العربي أو ذاك، بعد أن هُجر هو وأهله، بقوة سلاح العصابات الصهيونية، من قريتهم زكريا الرابضة على السفوح الغربية لجبال الخليل، والتي نسفتها إسرائيل في العام ،1950 وسوتها بالأرض، ثم أنشأت على أنقاضها مستوطنة زخاريا؟
قبل الدخول إلى فضاء هذا الصوت، أتوقف قليلا عند المقدمة التي كتبها الشاعر نفسه لمجموعته، والتي يطلب منا قراءتها. نقرأ: ترددتُ قبل أن أدفع (هذا الكتاب المجموعة) إليك، لعلمي أنه لو خرج بالصورة التي كنت قد خلقته بها لقضي عليه في المهد، ولما سمعت له حتى الوجيب. ولكني إن أكن بعثته مسخا بالنسبة للصورة التي كان يجب أن يكون عليها، فذلك لاعتقادي أن وجود شيء أفضل من لا شيء…
ثمة رقابة ما على ذلك، خارجة عن إرادة الشاعر، كانت موجودة، وكانت تحاول خنق هذا الصوت منذ سنوات النكبة الأولى. وهل اختفت تلك الرقابة حقا، حتى في الذكرى الستين للنكبة، أم لبست لبوسات شتى في أشكالها الحديثة؟
نتجاوز غصة الراهن، إلى فضاء صوت خليل زقطان، بما أتيح له قبل أكثر من نصف قرن، من غضب ووجع وتمرد. ففي قصيدته قسما بجوع اللاجئين نقرأ:
أنا قد صحوت على الجراح تسيل من بعضي لبعضي
أنا قد صحوت وإذ أنا ملقى بأرض غير أرضي
أنا قد صحوت على العروبة تزدرى جهرا وتغضي
أنا قد نظرت المستجير وإذ به يا قوم عِرضي
ولكن زقطان يتمرد على هذا الجوع، ويدعو شعبه وأمته للثورة. ومن السهل أن ننصت لهدير هذا التمرد في معظم قصائده، ومنها أخي:
أخي إن شردوك اليوم عن أرض وعن سكن
وإن جاؤوك بالخبز لكي يلهوك بالمنن
فهذا الخبز أقساط تعوضها عن الوطن
أخي ما هذه الخيمات بعد القصر تُعطاها
وما هذي الجبال الجرد بعد السهل تؤواها
فلا ترضَ وإن زادوك، إلا الأرض إياها
ولا يتوقف هذا الهدير عند حق اللاجئين الفلسطينيين وحدهم في العودة وفي الحياة الكريمة، بل يتصاعد ويتوسع ليشمل حقوق كل البائسين والمعذبين في كل مكان، ما يحقق لهذا الشعر إنسانيته على مستوى كل الشعوب، كما في قصيدة أناشيد الشعوب:
للبائسين نذرت مجهودي وأوقفت اليراع
للخارجين من الظلام الزاحفين إلى الضياء
أرسلت شعري كي يطارحهم أناشيد الدماء
حتى إذا انتصرت قوى التحرير وانتظم البقاء
وتبسمت دنيا الشعوب وأمّن الكونُ الرخاء
فهناك أهتف بالقريض إلى الغناء….
وفي هذا الوقت الذي كان ينتشر فيه هذا الصوت المدوي في القدس، كان الشاعر عبد الكريم الكرمي يصدر مجموعته الشعرية الأولى بعد النكبة، في العام نفسه 1953 في دمشق، تحت عنوان المشرد. وهو بالضرورة عنوان مغاير تماما لكل ما كان يصدر من عناوين لمجموعات شعرية أو قصصية في العواصم العربية. ولكنه العنوان الأكثر صدقاً في صراحته ومباشرته للواقع الفلسطيني بعد النكبة وظهور مشهد آلاف المشردين والتائهين على وجهوهم من الفلسطينيين في العواصم العربية، وعواصم الدنيا كلها. في القصيدة الأولى من هذه المجموعة التي تحمل العنوان ذاته، نقرأ:
يا أخي أنت معي في كل درب
فاحمل الجرح وسر جنبا لجنب
قد مشيناها خطى دامية
أنبتت فوق الثرى أنضر عشب
نحن إن لم نحترق، كيف السنى
يملأ الدنيا ويهدي كل ركب
والكرمي يملك الجرأة للجهر بمعرفته أن سبب النكبة ناتج عن تواطؤ وتخاذل بعض زعماء الفلسطينيين، بقدر ما هو ناتج عن الصهيونية والاستعمار.
وفلسطين الباقية في وجدان هذا الشاعر لا بد أن تعود حقا بعودة شعبها المشرد إليها، في نهاية المطاف، طالما أن أحدا من هذا الشعب لم يعد قابلا بالخنوع، وبالقناعة بما يقررون. نقرأ في قصيدته نور ونار:
إيه فلسطين الجريح قفي على طهر الإزار
لا تسألي المستعمرين بل اسألي أهل الديار
يا أيها الشعب النبيل أمنتَ من شر العثار
أنت الذي تهدي السبيل من اليمين إلى اليسار
قررْ مصيرك أنت لا من يبصمون على القرار
وفي هذه الأجواء التي يحملنا إليها الكرمي، من قصيدة إلى أخرى، نمتلئ بإرادة متوثبة نفتقر إليها الآن، بعد ستين سنة من النكبة، في سياق غنائية رومانسية كانت توفر في صيغتها التفاؤلية رغم الظلام المحدق بها من كل جانب، أملا للشعب الفلسطيني، ولكل الشعوب العربية. ففي قصيدة سنعود نحس ببشائر العودة المحتمة للاجئين الفلسطينيين:
غدا سنعود والأجيال تصغي
إلى وقع الخطى عند الإياب
نعود مع العواصف داويات
مع البرق المقدس والشهاب
مع الأمل المجنح والأغاني
مع النسر المحلق والعقاب
ونحن الثائرين بكل أرض
سنصهر باللظى نير الرقاب
هل نملك في مرحلتنا الراهنة إرادة العودة الثقافية لمثل هذه التفاؤلية الشعرية على الأقل، في سبيل استنهاض الهمم المترنحة والمتفسخة تحت أثقال اليأس والإحباط والخوف؟