نشارككم اليوم أحد المواقف من السيرة النبوية العطرة وسيرة الصحابة الكرام ، حيث نسرد لكم قصة اول سفير في الاسلام وهو مصعب بن عمير ففي ضيافة من نزل ؟ وقد كان الصحابي الجليل مصعب بن عمير من الصحابة الذين أعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل حمل لواء الإسلام ز
في مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد النبي خاتم النبيين، حيث وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من خديجة بنت خويلد في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك، وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم كانت الهجرة إلى المدينة المنوَّرة بعد شدة بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات، تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات، وكانت حياته نواة الحضارة الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد الخلفاء الراشدين من بعده.
نزل مصعب بن عمير في ضيافة ؟
نزل الصحابي الجليل مصعب بن عمير في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي، وهو من أهل بيعة العقبة الأولى، بل من الستة الذين أسلموا أول الأمر على يد رسول الله، ولم يكن يتجاوز الثلاثين عند إسلامه ولكن حكمته فاقت حكمة الشيوخ، ولم يبق في الإسلام إلا أربع سنوات فقط ولكنه قدم فيها ما لم يقدمه غيره في عشرات السنين.
نزل مصعب بن عمير في ضيافة ؟
قصة مصعب بن عمير في الدعوة الى الله
نزل مصعب بن عمير رضي الله عنه في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنه، وأسعد من أهل العقبة الأولى؛ بل من الستة الذين أسلموا أول الأمر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يتجاوز الثلاثين عند إسلامه؛ ولكن حكمته فاقت حكمة الشيوخ، ولم يَعِشْ في الإسلام إلَّا أربع سنوات فقط؛ ولكنَّه قدَّم فيها ما لم يُقَدِّمْهُ غيره في عشرات السنين!
كان أسعد بن زرارة رضي الله عنه يأخذ مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى كل بقعة في يثرب، ويدخل به في كلِّ بيت أو ملتقى، ويسير به في كلِّ شارعٍ أو حديقة، ولا يترك أحدًا إلا وقدَّم له مصعب بن عمير رضي الله عنه، ثمَّ يبدأ مصعب رضي الله عنه في التعريف بالإسلام وقراءة القرآن، حتى عُرِف مصعب رضي الله عنه في يثرب بالمقرئ. إنَّها أدوار متكاملة، مصعب رضي الله عنه بغير أسعد رضي الله عنه لن يستطيع أن يحضر مجالس أهل يثرب، وأسعد رضي الله عنه بغير مصعب رضي الله عنه لا يستطيع أن يُقنع الناس بحلاوة الإسلام، فرجلٌ يُمَهِّد الطريق وآخر يسير فيه، ورجلٌ يجمع المستمعين وآخر يخطب ويتكلَّم ويشرح ويُفَسِّر! قد يعتقد بعض الناس أنَّ الداعية هو فقط الخطيب المفوَّه، والمتحدِّث البليغ، وليس أسعد بن زرارة رضي الله عنه عندهم داعيةً بهذا التعريف، ولكنَّه -والله- داعية، وداعيةٌ عظيم؛ ولكن له وظيفةً أخرى لا تقلُّ أهميَّةً عن وظيفة المقرئ مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهذه فضيلة العمل الجماعي المنظَّم؛ فدين الإسلام دين عظيم، يستخدم كل المواهب لنفع الأرض، ولخدمة الدين، ولبناء الأُمَّة.
ويُحسَب -أيضًا- لأسعد بن زرارة رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ مصعب بن عمير رضي الله عنه لديار الخزرج فقط؛ بل كان يأخذه -أيضًا- إلى ديار الأوس، وهي القبيلة التي ما جفَّت سيوفها بعدُ من دماء الخزرجيين، وكذلك ما جفَّت سيوف الخزرج من دماء الأوس؛ ولكنَّه تناسى تمامًا كلَّ الشحناء والبغضاء القديمة، وأدرك حقيقة الدنيا وقيمتها بالنسبة إلى الآخرة، فعَلِمَ أنَّ التنافس على هذه الدنيا نوعٌ من الحماقة، وأنَّ العمل للآخرة هو الذي يبقى، وعمله مع الأوس سيبقى كما سيبقى عمله مع الخزرج؛ بل لعلَّه أثقل في ميزان الله عز وجل لأنَّه أصعب، والأجر على قدر المشقَّة.
ومن أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب رضي الله عنهما دعوتهما لأسيد بن حضير ولسعد بن معاذ رضي الله عنهما؛ وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، فقد ذهب أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير رضي الله عنهما في هذه الزيارة إلى عقر دار الأوس! وجمع له مَنِ استطاع منهم، وأخذ مصعب بن عمير رضي الله عنه يقرأ عليهم القرآن، ويُعَلِّمهم الإسلام، وعَلِم سيد القبيلة سعد بن معاذ، فكان هذا الموقف!
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ معاذ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ ظَفَرٍ: كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الأَوْسِ -قَالَا[1] عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ مَرَقٍ- فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بْنُ معاذ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، يَوْمَئِذٍ سَيِّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: لَا أَبَا لَكَ، انْطَلِقْ إلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابْنُ خَالَتِي، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا. قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ. ثمَّ أَقْبَلَ إلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللهَ فِيهِ. قَالَ مُصْعَبٌ: إنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَتَجْلِسُ فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ: أَنْصَفْتَ. ثمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَقَالَا: فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا: وَاللهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ. ثمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثمَّ تُصَلِّي. فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ لَهُمَا: إنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إلَيْكُمَا الآنَ، سَعْدَ بْنَ معاذ. ثمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ معاذ مُقْبِلًا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا، فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ، لِيُخْفِرُوكَ. قَالَ: فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا، تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْ يَدِهِ. ثمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ، عَرَفَ سَعْدٌ أَنَّ أُسَيْدًا إنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، ثمَّ قَالَ لأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ -وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَيْ مُصْعَبُ، جَاءَكَ وَاللهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ، إنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ- قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَتَقْعُدُ فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ. ثمَّ رَكَزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، قَالَا: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، لإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَامِدًا إلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ. قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا، قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ رَجَعَ إلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَوْصَلُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً. قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ. قَالَا: فَوَاللهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلَّا مسلمًا وَمُسْلِمَةً. وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللهِ، وَهُمْ مِنَ الأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَتِ([2])، وَهُوَ صَيْفِيٌّ([3])، وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قائدًا يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الإِسْلَامِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ[4].
لقد حدثت هذه الدعوة وسادة الأوس في الحديقة: أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا آنذاك على الشرك، ولقد سمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد رضي الله عنهما فغضب وهمَّ أن يذهب إليهما فيطردهما من الحديقة؛ ولكنه توقَّف لكون أسعد بن زرارة رضي الله عنه ابن خالته، وأمر أسيد بن حضير بالقيام بمهمَّة الطرد والإبعاد نيابة عنه، فجاء أسيد بن حضير متشتِّمًا لأداء مهمَّته، فحدث الموقف الجليل، وكانت بدايته كلمات رائعة من أسعد بن زرارة رضي الله عنه!
لقد قال أسعد لمصعب رضي الله عنهما: «هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللهَ فِيهِ»!
وإنَّ هذا لأمرٌ عظيمٌ حقًّا من أسعد رضي الله عنه!
فمصعب هو المقرئ، وهو المعلِّم، وهو السابق، وقد يظنُّ ظانٌّ أنَّه لا يحتاج إلى هذا التذكير؛ ولكن يقول تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]. ويدلُّ الموقف حقيقةً على وضوح الرؤية عند أسعد رضي الله عنه، وعلمه أنَّ الهداية من عند الله.
ثم كانت الكلمات التهديديَّة العنيفة من أسيد بن حضير؛ ولكن هذه الكلمات لم تستثر مصعب بن عمير رضي الله عنه ولم تستفزَّه، فهو داعيةٌ حكيمٌ رزين، كما أنَّ الكلام لم يستفزَّ أسعد بن زرارة، ولو قيل هذا الكلام أيَّام جاهليَّته لسالت فيه دماء؛ ولكن هذا هو حِلْم الإسلام.
ثمَّ دعا مصعب رضي الله عنه أُسَيْد بن حضير لأن يسمع القرآن، فإذا بالزعيم الأوسي يقبل؛ بل ويقول: أنصفت. ثمَّ جلس يستمع!
إنَّ هذه نقطة لا بُدَّ أن تلفت الأنظار؛ فقد كان من الممكن أن يرفض أسيدٌ السماع من الأصل؛ ولكن الواضح أنَّه ليس بمتكبِّر، ومَنْ كانت هذه هيئته فيُرْجَى له الإيمان، ثمَّ بدأ مصعب يتكلَّم بالإسلام ويقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير!
ما هذا الكلام؟ ما أروعه! كيف غاب عنه قبل ذلك؟
وظهرت انفعالات أسيدٌ الداخليَّة على وجهه، حتى قال أسعد ومصعب رضي الله عنهما: «وَاللهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ»! لقد استضاء وجه أسيدٍ لمـَّا نوَّر الله قلبه بالإيمان! لقد كان الرجل هو الرجل ولكنَّه فقط آمن.
قال أسيد بن حضير: «مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ»؟
إنَّ هذا لموقفٌ عجيب!
إنَّ الإنسان ليَحَارُ من موقف هذا الصحابيِّ العظيم أسيد بن حضير رضي الله عنه، والحقُّ إنَّني لا أستطيع أن أصف العظمة التي وصل إليها هذا الصحابي الجليل! هل أصف تواضعه الجمَّ؟ أم أصف رضوخه للحقِّ عند أوَّل ظهوره؟ أم أصف سرعة اتخاذه القرار في المواقف الحاسمة؟ إنَّه كان يقف منذ لحظاتٍ متشتِّمًا، مستعدًّا لقتال، متجهِّزًا لحرب، ثمَّ سمع كلمات قلائل! ماذا سمع؟ مهما سمع، فكم عدد الكلمات التي سمعها؟ إنَّها قليلة، قليلة؛ ولكنَّها من كلمات الرحمن، فغيَّرت كليَّةً في كيانه، وفي لحظةٍ واحدةٍ ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات، ترك دين آبائه وأجداده، ووقف معاديًا لكلِّ مشركي الأرض بما فيهم قومه وعشيرته!
إنَّه موقفٌ عظيمٌ، عظيمٌ، عظيم!
ووصف له مصعب بن عمير رضي الله عنه كيفيَّة الإسلام فأسلم! حتى دون أن يُفَكِّر في إخبار زعيم قومه سعد بن معاذ!
الآن أصبح أسيد بن حضير مسلمًا، وشعر من فوره بحلاوة الإيمان، وأراد أن ينقل هذه الحلاوة إلى أحبابه! إنه لم يصبح مسلمًا فقط، بل أصبح داعية!
قال أسيد: «إنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إلَيْكُمَا الآنَ، سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ».
وقام أسيد بن حضير رضي الله عنه إلى سعد بن معاذ، وجاءه وهو يجلس بين قومه، وسعد بن معاذ رجلٌ ذكيٌّ لمـَّاح، فقال بعد نظرةٍ واحدةٍ إلى أسيد: «أَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ». وصدق سعد، لقد ذهب أسيدٌ رضي الله عنه بوجه كافر، وعاد بوجه مؤمن، وشتَّان!
وكان على أسيد رضي الله عنه أن يبحث عن حيلةٍ تدفع سعد بن معاذ إلى الإسلام!
ولقد واجهت أسيد بن حضير رضي الله عنه معضلة! فلو ذكر لسعد بن معاذ أنَّه اعتنق الإسلام، فقد يغضب سعد ويثور، وليست المشكلة في غضبه وثورته أنَّه قد يُؤذيه؛ ولكن المشكلة أنَّه لن يسمع ما سمع، وهو في الوقت نفسه لا يعلم شيئًا بعدُ عن الإسلام، ولا يحفظ آيات من القرآن، فليست له القدرة على دعوته وإقناعه، وسعد بن معاذ ليس بالرجل البسيط الذي يُمكن أن يقبل كلماتٍ عابرةً من أسيد رضي الله عنه، فماذا يفعل؟!
لقد قرَّر أسيد بن حضير رضي الله عنه -كما رأينا- أن يقوم بحيلةٍ يدفع بها سعد بن معاذ دفعًا إلى مجلس مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو على يقينٍ أنَّه إن سمع ما سمع فسوف يُؤمن؛ فهذا كلامٌ لا يُقاومه عاقل.
ونجحت الحيلة، ووصل سعد بن معاذ إلى مجلس مصعب وأسعد رضي الله عنهما!
وكما كانت بداية أسيد بن حضير رضي الله عنه ناريَّة كانت كذلك بداية سعد بن معاذ!
كرَّر مصعب بن عمير رضي الله عنه مع سعد ما فعله مع أسيد رضي الله عنه، وكان ردُّ فعل سعد مشابهًا تمامًا لردِّ فعل قريبه أسيد رضي الله عنه، فجلس يستمع بعد أن قال: أنصفتَ!
ووقعت الكلمات في قلب سعد بن معاذ كما وقعت في قلب أسيد بن حضير رضي الله عنه، وفي لحظةٍ واحدةٍ قرَّر أن يترك دينه ودين آبائه ويعتنق الإسلام!
سبحان الله! هذا القرآن عجيب!
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]. والقرآن فعلًا شفاء، وهل هناك مرضٌ أشدُّ من الكفر؟ وها هو سعد بن معاذ رضي الله عنه يتحوَّل من كافرٍ لا يُساوي عند الله شيئًا إلى مؤمنٍ يهتزُّ عرش الرحمن لموته!
كيف؟!
بالقرآن، وبالإسلام، وباتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبتغيير الهدف والوجهة، وبدلًا من كلِّ أعراض الدنيا الزائفة، أصبح الهدف هو الله والجنَّة.
وأصبح سعدٌ رضي الله عنه مسلمًا!
وكما تحوَّل أسيد بن حضير رضي الله عنه من كافرٍ إلى مؤمنٍ ثم إلى داعية؛ فكذلك تحوَّل سعد بن معاذ من كافرٍ إلى مؤمنٍ ثم إلى داعية، وإذا كان أسيد بن حضير رضي الله عنه قد دعا رجلًا واحدًا هو سعد بن معاذ رضي الله عنه فإنَّ سعد بن معاذ رضي الله عنه فعل ما هو أعجب من ذلك؛ فقد أخذ حربته وأقبل على قومه الذين كان يجلس معهم منذ ساعةٍ أو أقل، فلمَّا رأوه لاحظوا الفرق الكبير في شكله وهيئته؛ فقالوا: «نَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ رَجَعَ إلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ». فوقف عليهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقال وهو يستجمع كلَّ طاقاته ليدفعهم إلى الإسلام: يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟
قَالُوا: سَيِّدُنَا (وَأَوْصَلُنَا) وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً.
قال سعد في صرامةٍ ووضوح: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ.
إنَّها مفاصلةٌ كاملةٌ عجيبة! فالرجل زعيم وسيد وأمير، وله وضعٌ اجتماعيٌّ مرموقٌ جدًّا، فماذا يحدث لو رفض قومُه كلامَه؟ إنَّه ببساطةٍ سيُصبح وحيدًا، وسيختارون سيِّدًا غيره، ومع ذلك فقد أصبحت الدنيا بأسرها في عين سعد رضي الله عنه تافهة حقيرة قليلة.
ثمَّ إنَّه منذ قليلٍ رأى قدوةً حسنةً مرَّت بالتجربة نفسها ونجحت!
لقد رأى مصعبَ بن عمير رضي الله عنه الفتى الذي كان مدلَّلًا مترفًا منعَّمًا؛ ولكنَّه كان مشركًا، رآه الآن قد تخشَّف جلده، وتخشَّنت ثيابه؛ ولكنَّه أصبح مؤمنًا عالمـًا تقيًّا، فاشتاقت نفسُ سعدٍ رضي الله عنه أن يكون على هذه الصورة البهيَّة، واشتاقت نفسه أن يترك حياة المال والسيادة والدنيا واللهو إلى حياة الجد والجهاد والدين والجنَّة. لقد عظمت في عينه الأهداف، وشعر أنَّ ما مضى من حياته كان عمرًا ضائعًا، وأصبح كلُّ همِّه ألَّا يضيع عمره الباقي!
فماذا كان ردُّ فِعْل قومه؟
لقد أسلمت قبيلته إلَّا قليلًا!
لقد أدخل سعد بن معاذ رضي الله عنه قبيلةً بأكملها في الإسلام، برجالها ونسائها وأطفالها، وليس هذا فقط ولكن أُضيفت إلى قوَّة الإسلام الطاقة العسكريَّة الكاملة لقبيلة بني عبد الأشهل من الأوس، بسلاحها وخيولها وجيشها!
أيُّ نصرٍ وتمكينٍ هذا الذي فعله الله عز وجل للمؤمنين بين لحظةٍ وأخرى!
لقد كان المؤمنون في لحظةٍ ما عشرات، فأصبحوا في اللحظة التالية مئات ومئات!
إنَّ لحظة التمكين بيد الله عز وجل، ومهما قلَّ عدد المسلمين فالله قادرٌ أن يُنزل نصره عليهم في لحظة، وبالطريقة التي يُريد؛ ولكن المهمَّ أن يعمل المسلمون كما عَمِل مصعب وأسعد رضي الله عنهما، وسينزل نصر الله عز وجل برجلٍ مثل سعد رضي الله عنه، وبقبيلةٍ أو جماعةٍ أو دولةٍ مثل الأوس.
ثُمَّ لنقف وقفةً مهمَّةً مع الأجر الذي حصَّله سعد بن معاذ رضي الله عنه بهذا الموقف!
إنَّ الإيمان الذي آمنه بنو عبد الأشهل، والصلاة التي يُصَلُّونها، والزكاة التي يدفعونها، والجهاد الذي يُجاهدونه، والخير الذي يقومون به، هم وذريَّاتهم، ومَنْ كانوا سببًا في إسلامهم، كل هذا في ميزان سعد بن معاذ رضي الله عنه، ثمَّ إنَّ كلَّ ذلك في ميزان أسيد بن حضير رضي الله عنه الذي أتى بسعد بن معاذ رضي الله عنه، ثمَّ إنَّ كلَّ ذلك في ميزان مصعب وأسعد رضي الله عنهما اللذين دعوا أسيد بن حضير رضي الله عنه إلى الإسلام.
إنَّها الدعوة إلى الله!
لذلك يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
واستمرَّ مصعب وأسعد وأسيد وسعد وغيرهم رضي الله عنهم في دعوة أهل يثرب، وتحوَّلت تلك البقاع إلى خليَّة نحلٍ نشيطة؛ فالكلُّ يعمل في الدعوة إلى الله، حتى لم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إلَّا وفيها رجالٌ ونساءٌ مسلمون، وأصبح وضع الإسلام مستقرًّا إلى حدٍّ كبيرٍ في هذا البلد الجديد.