اخبار حصرية

هل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان

المحتويات

هل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان

اختلط النص الديني الإسلامي بالموروث الحضاري اليوناني فبدأ الضياع في العالم الإسلامي، الضياع الفكري والفلسفي ، فهل لمفري الاسلام فلسفة على شاكلة اليونان؟ هذا ما سنعرفه في هذه المقالة حيث أن هناك جدلٌ كبيرٌ ومثيرٌ اندلع في الأزمنة الغابرة وما زال الإشكال قائماً إلى يوم الناس هذا. ويتمحور الإشكال حول ماهية الفلسفة الإسلامية، وهل هي نتاجٌ خالصٌ وقحّ للعقل المسلم، أم أنّ الفلسفة الإسلامية هي استيرادٌ وتعريبٌ للفكر اليوناني والإغريقي، والذي أضفي عليه طابع الأسلمة؟

وقد حمل أبو حامد الغزالي راية الحملة على الفلاسفة المسلمين، واعتبر أنّ المترجمين لكلام أرسطو لم ينفك كلامهم عن تحريفٍ وتبديلٍ محوج إلى تفسيرٍ وتأويل. وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام، ويذكر الفارابي وابن سينا، ويقول أن هؤلاء تأثروا بأرسطو وأفلاطون وأنّ البعض كان يعتبر هؤلاء أنبياء.


هل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان

فليعلم أننا مقتصرون على رد مذاهبهم، بحسب نقل هذين الرجلين. هذا رأي أبو حامد الغزالي. أما ابن تيمية الذي كان يكفّر الفلاسفة أيضاً، فقال “أما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحدٌ لكثرته وتفرّقهم، فإنّ الفلسفة عند المتأخّرين كالفارابي وابن سينا هي من نسج ما ذهب إليه أرسطو وأتباعه”، وهو صاحب تعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعي.

ويذهب البعض إلى القول بأن الأثر الفلسفي الإغريقي تسلّل إلى بُنية الفلسفة الإسلامية على مستوى المفهوم الفلسفي، وحتى على مستوى المضامين، وخصوصاً عندما انطلقت بعض العقول الإسلامية من القول أنّ مذاهب الفلاسفة المتقدّمين كانت توحيدية. وهناك من اعتبر أرسطو وأفلاطون من الأنبياء. وهنا يُشار إلى الفارابي المتأثّر بهما، والدكتور مصطفى محمود كان يقول “هل فلاسفة الإغريق أنبياء أم رُسُل؟” ويقول في هذا السياق “إن أرسطو كان يرى أنّ الله خلق كل شيء وأفلاطون كان يُسمي الله مثال الخير وكان يرى أن العالم ينقسم إلى عالمين. أما فيكن فكان يسمي الله بالمطلق وكان يرى أن الأفكار تتلاحق وتتكاثر وتصعد إلى الله سبحانه وتعالى”.

اما بيرغسون وهو معاصر بتعبير مصطفى محمود، فيرى أنّ هناك قوة كانت سبب الوجود. أما شوبنهاور فكان يُسمّي هذه القوة بالإرادة. وحتى كونفوشيوس كان نبياً عاش في الصين ومنه انطلقت الكونفوشيوسية التي تهتمّ بالعلاقات الإنسانية والسلوكيات الاجتماعية وعلاقات البشر في ما بينهم. ولطالما أيضاً انطلق الكندي من مفاهيم أفلاطون وأرسطو وصاغ كتاباته الفلسفية. ومن الكندي إلى ابن رشد، كانت القضايا والمضامين الفلسفية التي أنتجها فلاسفة اليونان حاضرة في دائرة العقل المسلم.

فعلى الرغم من صياغة الفيلسوف المسلم لقضايا وإشكاليات خاصة به أفرزتها شروط ثقافته ومجتمعه العربيين والإسلاميين، فإنّه أيضاً اشتغل بقضايا فلسفية كما صاغها فلاسفة اليونان واستعاد في الوقت ذاته المحتوى المعرفي الذي تضمّنته الفلسفة اليونانية. فهل كانت الفلسفة الإسلامية اجترارٌ وتكرارٌ لفلسفة اليونان وإعادة إنتاجها لكن باللغة العربية؟ وهل كانت الفلسفة اليونانية مادة التفكير الفلسفي في الإسلام وأصبحت جزءاً منه؟ وهل اختلط النصّ الديني الإسلامي بالموروث الحضاري اليوناني وبدأ بذلك الضياع في العالم الإسلامي، الضياع الفكري والفلسفي؟ وأين أصبح النص بعد تحول النص اليوناني المعقلن إلى نصٍ بديل؟

الفلسفة الإسلامية وتأثير اليونان عليها عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش الأستاذ الفاضل الدكتور خنجر حمية أستاذ الفلسفة الإسلامية في لبنان، والدكتور عبد السلام أحمد راجح الأستاذ في أصول الفقه في سورية، ومن مصر الدكتور صلاح الدين عبد الله الباحث في التراث الإسلامي والدكتور في تاريخ وفلسفة الأديان. مرحباً بكم جميعاً.

دكتور خنجر، مبدئياً الإشكالات التي طرحتها ويطرحها كثيرون في دائرة الإبستمولوجية، المعرفة الإسلامية، هل هي وجيهة؟ وهل لك ما تضيف أو ما تلغيه إن صحّ التعبير؟

خنجر حمية: الفلسفة الإسلامية إشكالية تاريخية قديمة، والنقاش حولها لم يهدأ إطلاقاً، مذ بدأ العرب المسلمون يشتغلون بقضايا الفكر اليوناني وبمشكلات موروثة عن الفكر اليوناني، ومذ أخذوا يديرون الكلام حول قضايا فلسفية والنقاش لم يهدأ على الإطلاق في البيئة العربية الإسلامية حول الفلسفة من ناحية مشروعية الاشتغال بها أو عدم مشروعية الاشتغال بها، جدوى النظر الفلسفي وفائدته، إلى أين يقود مثل هذا النمط من أنماط العقل أو الفعل العقلي أو التفكير، ثمّ هل يتلاءم مع الدين ويتنافى، أسئلة جوهرية وأساسية.

هل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان

يحيى أبو زكريا: وقبل ذلك سؤال الأسئلة، متى بدأ التفلسف في الإسلام؟

 

خنجر حمية: الموضوع بات واضحاً جداً بعد دراسات مستوعبة وعميقة وكثيرة، تكاد لا تُحصَر، حول البدايات الأولى لفعل التفلسف الإسلامي. لا نستطيع ببساطة أن نضع يدنا على هذه البدايات إن لم نقرأ السياق المعرفي والفكري الممتدّ من أثينا التي عَرِفت لأول مرة في تاريخ البشرية تفكيراً فلسفياً منظماً، ومروراً بالمدارس اليونانية المتأخّرة، اليونانية الرومانية، وصولاً إلى بدايات الإسلام والمدارس التي عاشت في بيزنطا فترة من الزمن وازدهرت كأنطاكية وحران ونصيبين والرقة والتي ورثت الفكر اليوناني في أُخريات أيامه، إن لم نطّلع على هذا المسار للتفكير الفلسفي الإنساني الذي بدأ مع اليونان وساهم كثيرون من أعراق شتى وديانات شتى في تنميته وفي تطويره، إن لم نرَ هذا المسار لا نستطيع أن نضع يدنا على البدايات.

البدايات الأولى للتفكير الفلسفي الإسلامي هي بدايات الإلتقاء بالتراث الفلسفي اليوناني الذي عرفه المسلمون لأول مرةٍ في تاريخهم في الحواضر التي فتحوها في سورية أو في مصر أو في العراق، والتي ازدهر فيها التفكير الفلسفي في أواخر النشاط العقلي المعرفي لليونان، والذي استمرّ في الأمبراطورية الرومانية ردحاً طويلاً من الزمن. هناك بدأ تفكير المسلمين في مشكلات تنتمي في الحقيقة إلى دائرة التفلسف.

 

يحيى أبو زكريا: أرجو أن تبقى معي، سنعالج كافة النقاط. أمضي إلى القاهرة لاستكمال المحور.

دكتور صلاح الدين، بناءً على ما ذكره الدكتور خنجر، التفطير الفلسفي في الإسلام لم يكُ وليد العقل المسلم، بمعنى أنّ العقل المسلم تلاحق مع أفكار أخرى، احتكّ بالمدرسة اليونانية الإغريقية وأراد أن يجدّد نفس الإشكالات التي كانت مطروحة في العصر الإغريقي، في العصر اليوناني، بمعنى كان يفترض بالفلسفة الإسلامية أن تنطلق من الواقع الإسلامي لبناء نمطية تفكير معيّنة، والذي حدث أنّ العقل المسلم تأثّر بغيره كمن يتأثّر اليوم العقل المسلم بالعولمة والكوكبية وإفرازات المدارس الأخرى. خلاصة أنّ عقلنا اختُرِق وخُرِم في بدايات التفلسف في العالم الإسلامي. ما الذي تقوله في هذا السياق؟

هل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان

صلاح الدين عبد الله: بادئ ذي بدء، هنالك أفكار يطيب لي أن أطرحها في هذا الصدد، ولكن لا بدّ من إرساء خطوط عريضة منها ما يلي. أولا هناك فرقٌ بين الدين من حيث هو منظومة تتضمّن العقائد والقصص والشعائر والشرائع، وبين الحضارة من حيث هي نشاطٌ بشريٌ ضخم ٌمتنوّعٌ تنوع القائمين به. هذه نقطة، والنقطة الثانية أو الخط العريض الثاني الذي أريد أن أُلفت النظر إليه، أنّ الفيرال الواحدة قد تكتسي أثواباً متعددة حين تدخل الحضارات المختلفة. الأمر الثالث او الخط الثالث الذي أريد أن أشير إليه هو أنه لا توجد حضارة تصنعها الطفرة، يستحيل. كلّ حضارة هي نتاجٌ لتراكم الخبرات، فلا بدّ لكل حضارة أن تمرّ بطور من السذاجة، سواء أكانت حضارة المصريين القدماء أم السومريين أم البابليين أم الإغريق أم الرومان أم العرب أم الحضارة الغربية الحديثة.

أقول في ضوء هذا، لا أستطيع أن أقول إنّ العقل الإسلامي لم يعرف التفلسف قبل الإغريق، هذا مستحيل، تأباه سنن الاجتماع كل الإباء. الذي حدث هو أنّ العقل الإسلامي بدأ يناقش الموضوعات اليونانية بعد أن استقرّت له الترجمة بعض الاستقرار لا كلّ الاستقرار. أما قبل ذلك، فقد كنّا نجد أفكاراً، جميع الفرق الإسلامية نشأت في القرن الأول الهجري إذ لم يكن شيءٌ من الفلسفة الإغريقية قد تُرجِم بعد، فمثلاً كان قصارى ما تناهي إليه المسلمون في الترجمة أن أهرن بن أعين أو ماسرجويه ترجم لهم بعض كتب الطبّ في عهد عمر ابن عبد العزيز، وكان يُنسَب إلى خالد ابن يزيد أنّه كان مولعاً بالكيمياء ليستغني بها ويُغني أصحابه. أما الفِرَق من معتزلة وخوارج وشيعة وجبرية ومُرجئة، فكلّها قد نشأت قبل الترجمة قولاً واحداً بإجماع المؤرخين. غاية ما حدث أنّ هذه الفِرَق ربما استعانت بآلياتٍ مترجمةٍ عن الفكر الإغريقي، فطوّرت أداءها، حين انتقلت من طور القلق المعرفي والدفاع الديني إلى طور المهنية. هذا أمرٌ يجب أن يوضَع في الحسبان.

أقول إنّ الثقافة اليونانية حين تُرجِمت أفادت، لكنّها لم تخلق عقلاً فلسفياً، وسأسوق دليلاً على ذلك، من كلام المتكلمين مثلاً أو من أدلتهم شيءٌ يسمونه انتفاء الدليل لانتفاء المدلول، هذا لا وجود له في الفكر اليوناني على الإطلاق. أضف إلى هذا أنّ علم أصول الفقه نفسه لا وجود له في الفكر اليوناني على الإطلاق، لأنه علم مرتبط بالنص المقدّس وبالتالي باللغة العربية، فإن قلت أنّ الفلسفة الإغريقية قد أفادت العقل الإسلامي قلت لك نعم، أما إن قلت أنها وهبته التفلسف من عدم فهذا ما لا أوافق عليه، وبيننا الأدلة التاريخية نسوقها دليلاً دليلاً.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، هذا القدر يكفي لتوطئة الأرضية لبقية البحوث. سأعود إليك بُعيد حين.

دكتور عبد السلام، عندما نتحدث عن الفلسفة الإسلامية يرد إشكال. الإشكال هو أن في الإسلام النص القرآني والنص النبوي الصحيح قد أجاب عن كلّ التساؤلات، والفلسفة بلحاظها الاصطلاحي انها وضع الأشياء في مواضعها والبحث عن الإشكالات. كيف من جهة نبحث عن جواب لإشكالات القرآن أجاب عنها، ولهذا كما يقال تأخّر المسلمون في الذهاب إلى الفلسفة لتوطيد مبانيهم النصية إن صح التعبير؟ ما الذي تقوله في ذلك؟

 

عبد السلام راجح: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا  محمد وعلى أخيه سيّدنا عيسى وعلى أخيهما سيّدنا موسى وعلى أبيهم سيّدنا إبراهيم وأنبياء الله ورسله أجمعين.

أما بعد، فحقيقةً في الجواب عن سؤالكم دكتور، والذي ينصبّ في بؤرة ما تناوله الأخوان الكريمان قبلي لهما منّي التحية، أقول إنّه من ظلم فلسفتنا الإسلامية أن نزعم أنّها نتاجٌ يوناني صرف كما تفضلتم في مقدمتكم، لأننا نتحدث عن قدر إنساني مشترك هو ثمرة عقول أهل الخبرات والفهم والإدراك. ولذلك لا يُتصوَّر أبداً أن نتحدث بشأن فهم النص القرآني والإشكاليات التي تفضّلتم بفهمها أو حيال فهم النص أو حيال فهم الناس وفهم المنظّرين وفهم العلماء لها وكذا السنّة النبوية الصحيحة، أن نحتاج إلى الرجوع إلى نظرياتٍ فلسفية مصدرها يوناني لنتعرّف على واقع القرآن الكريم. فهذا من الإجحاف بمقام حيث أنّ هذا النص القرآني هو نصٌ واضحٌ أعانت على فهمه لغة العرب التي نزل بها، ثم جاءت السنّة النبوية لتؤكد على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم “أوتيتُ القُرآنَ ومثلهُ معهُ”.

وبالتالي، حينما نتحدّث عن هذا الأمر، نحن نعتزّ أنّ الأمّة الإسلامية باعتبار هذا الميراث العظيم الذي هو قدرٌ مشتركٌ بين أبناء الإنسانية جمعاء، استطاع أن يشكّل صورة فلسفية لا ننكر أبداً في إطار تعاون الأمم في أخذ علومها من بعضها البعض، لا ننكر أبداً نحن أمة الإسلام أننا نفتح العيون على كلّ علمٍ نافع نقبس منه ما يثري علومنا وما يوضّح مطلوبنا، ولذلك حينما نقول إننا أخذنا من الفلسفة اليونانية ضمن حركة الترجمة التي بدأت كما أشار الأخ الدكتور صلاح أيام خالد ابن يزيد، حينما كان يترجم في الكيمياء، ثمّ ازدهرت في العصر العبّاسي حقيقة ازدهاراً كبيراً، ونُقِلت عبر هذه المرحلة من مراحل الترجمة علومٌ كثيرة من واقع الفلسفة اليونانية إلى عالمنا الإسلامي واستفاد منها علماؤنا، ولكن أبداً لا يمكن أن نقول أننا أخذناها كاملة هكذا ثم أسقطناها على واقعنا العلمي وواقعنا المعرفي، أبداً، لأننا نملك خصوصية جعلت منّا نستفيد من هذه العلوم في حدود ما يقتضيه واقعنا.

هنا تعرض إشكالية مهمّة حقيقة لا بدّ من البحث فيها وهي أنّ أخذنا من فلسفة الإغريق اليونان، كانت تمثل بالنسبة لنا مرحلة تطورٍ معرفيٍ في الفكر الإنساني، والذي يمثل الفكر الإسلامي جزءًا منه في غمرة هذه المعرفة العامة التي حقيقةً وجّهت العالم بأسره في إطار المعرفة، فكانت هذه المعرفة مقتبَسة من واقع اليونان، ولكن في إطارٍ لم يُخرِجنا عن خصوصيتنا أبداً، وهنا يمكن أن نعلم وكما هو مبسوطٌ في كتب الفلسفة وفي كتب تاريخ الفلاسفة أنّ فلاسفتنا نحوا في هذا الأمر مناحي عدة، فالكندي مثلا تأثر بفلسفة أرسطو وكذا الفارابي، وكما تفضلت دكتور يحيى جاء الغزالي ليقف موقفاً من ذلك ولعل الحلقة تسمح لي أن أتحدث في ما يريده الغزالي من موقفه ومن كتابه تهافت الفلاسفة، ثم ما ظهر من كتاب تهافت التهافت لابن رشد الذي ردّ فيه على كتاب الغزالي.

بالمحصّلة، نحن ضمن هذه الحركة المعرفية العالمية جزءٌ لا يتجزأ منها، أخذنا من الفلسفة اليونانية لكننا أبداً لم نصبغ علومنا ولا ديننا بصبغة هذه الفلسفة، إنما أخذنا منها ما ينسجم مع مفهومنا وبقيت خصوصيتنا قائمة، لم نخرُج عنها ضمن فيرال الوحي وضمن فيرال الذات الإلهية التي سأفرد لها حديثاً إن شاء الله إن سمح الوقت.

 

يحيى أبو زكريا: وسوف نستكمل بقية النقاط لكن بُعيد الفاصل.

مشاهدينا فاصلٌ قصير ثمّ نعود إليكم فإبقوا معنا.

 

 

المحور الثاني

 

يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد. من أدرَكَ حلقتنا الآن، نحن نعالِج إشكالية التأثير اليوناني على الفلسفة الإسلاميّة ومنحنيات العقل المسلم.

دكتور خنجر، أشار الدكتور عبد السلام إلى أنّ المسلمين أنتجوا فلسفتهم، لكن لم يكُ هذا واقع الفلاسفة والفلسفة، العبارة السلفية الشهيرة “من تفلسف فقد تزندق” ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك، هنالك من كفّر تعلّم الفلسفة لِمَا رأى من التأثير الإغريقي على الدين؟ ما الذي تقوله في هذا السياق؟

 

خنجر حمية: نقطتان أرغب في أن اتحدّث عنهما قبل الدخول إلى هذه الإشكالية العميقة في تاريخنا المعرفي والفكري، الصراع الذي استمرّ فترة طويلة بين الفلسفة والدين، بين الفلسفة وبعض مذاهب المسلمين. المشكلة الأولى التي أودّ أن أتحدّث عنها هي أنّ المسلمين عرفوا التفلسف قبل اختلاطهم بالتراث اليوناني، لا يوجد شاهدٌ تاريخي على الإطلاق، وهذا محمد الباهي الذي ألّف في انتقال التراث اليوناني إلى العربية وكان سلفي الانتماء والميل رحمة الله عليه يقول بأن المسلمين لم يعرفوا التفكير الفلسفي المنظّم قبل اختلاطهم بالتراث اليوناني، أنا لا أقول قبل اختلاطهم باليونان، لأنهم لم يختلطوا قط باليونانيين، والحضارة اليونانية متقدمة على الحضارة الإسلامية قروناً، وبالتالي هم اختلطوا بتراث اليونانيين، بالشعوب التي كانت ما زالت تحمل شيئاً من تراث اليونان، لا أقصد تراث أثينا، تراث سقراط وأرسطو وأفلاطون، ثمة تراث يوناني يُحسَب على اليونان لكنه تراث روماني وهو تراث شرقي في حقيقته وفي طبيعته وفي جوهره كالفلسفة اليونانية المتأخرة التي عرفتها الاسكندرية والتي نهض بأعبائها مصريون أو شاميون سوريون أو تلك المدارس التي عرفتها بلادنا ونهض بها نصارى شرقيون كما هي الحال في أنطاكية.

 

يحيى أبو زكريا: وتتهم الفلسفة اليونانية بأنها سرقت من مدرسة الاسكندرية.

 

خنجر حمية: نعم، فهذه مدارس متأخرة في الفكر اليوناني اختلط فيها التفكير الأثيني اليوناني بتفكيرٍ آخر هو مشرقي في طبيعته وفي حقيقته، حينما اختلط المسلمون بهذه الشعوب بعد الفتوحات، وأنا أتحدّث عن القرن الأول، بعد الفتوحات حينما اختلطوا بهذه الشعوب وجدوا عندها تراثاً عقلياً منظماً وفكراً لم يعهدوه من قبل ونمطاً من الكلام والجدل لم يكن يدور بينهم ولم يكونوا يعرفون تقنياته، فحينما خالطوا هذه الشعوب تعرّفوا على هذا التراث من خلالها، وأثّر مثل هذا التراث تأثيراً ولو كان بسيطاً في بداية نشوء علم الكلام الإسلامي في محاور علم الكلام وقضاياه، ليس صحيحاً أنّ علم الكلام الإسلامي إنما هو علم نبع من القرآن من غير أيّ إضافة أو تأثير، وأنه تراث إنما أنتجه المسلمون وفق حاجات داخلية من دون أن يكون هناك مقتضيات ودواعٍ خارجية، علم الكلام أو علم الجدل إنما نشأ بعدما تعرف المسلمون على أشكالٍ من التفكير وعلى قضايا وعلى إشكاليات معرفية لم يكونوا يعرفونها من قبل، حرّكت عندهم أسئلة وهواجس وإشكالات ودفعتهم إلى هذا التفكير الذي بات يُعرف في ما بعد بعلم الكلام.

 

يحيى أبو زكريا: استكمالاً لما تقول، حتى المباني اللفظية للفلسفة الإسلامية يُقال أنّها يونانية، المصطلحات التي استخدمها المتكلمون.

 

خنجر حمية: الجوهر والعرب والمتحرك والسكان.

 

يحيى أبو زكريا: وماهية الوجود، أحسنت، هل هي بالفعل يونانية؟

 

خنجر حمية: طبعاً يونانية، تمّ تعريب مضامينها بمفرداتٍ تطوّرت مع الزمن واكتسبت هذه الصيغة بالعربية التي أصبحت تُعرَف بالمصطلحات الفلسفية التي دخلت إلى علم الكلام، وأكبر دليل على ذلك أنّ تطور علم الكلام في ما بعد لم يكن يتأتى له أن يبلغ ما بلغه لولا توسله بآليات التفكير المنظم اليوناني. هذه مسألة.

المسألة الأخرى التي أضافها الأخ من سورية، ليس مطلوباً الآن الحديث عن معايير، هل يحسن، كان من المسلمين أن ينظروا في قرآنهم من خلال أدوات التفكير الفلسفي اليوناني أو لا يحسن؟ هذا شيءٌ تخطاه الزمن، وبتصوّري الحديث في المعايير لا ينفع الآن. نحن نتحدث عن واقع. المسلمون فكّروا في الإسلام في مرحلة من الزمن عبر أدوات تفكير موروثة، مستجلَبة، غريبة إذا صحّ التعبير، أجنبية. ورثوا تراثاً منظّماً استفادوا منه وانتفعوا في فهمهم للإسلام وفي تفكيرهم فيه وفي قراءتهم لهم خصوصاً ما يتعلق بالميتافيزيقيا، بالإلهيات، بقضايا الوجود والمعرفة والأخلاق والنظر العقلي والألوهة والنبوة ومقتضياتها والسياسة، مثل هذه المشكلات لم يكن يتأتّى للمسلمين أن يفكروا فيها بالطريقة التي فكّروا فيها لولا هذه الأدوات.

 

يحيى أبو زكريا: هنا يرد عليك إشكال دكتور خنجر. هل عجز المسلمون عن استنباط أدوات التحليل الابستمولوجي المعرفي من القرآن الكريم؟ هل كان في القرآن قصور معاذ الله، طبعاً أنا أطرح الإشكال كما يُطرَح، قصور في إنتاج هذه الأدوات التحليلية؟ لماذا أنا أستعين بمبنى عقلي لآخر غير مسلم، غير رباني دعنا نقول، ونُسقطه على تفكير رباني، على نص رباني؟ ألا يؤدي هذا إلى الضياع إلى حد ما؟

 

خنجر حمية: لا، المشكلة إنسانية أكثر ممّا هي دينية. البشر على الدوام في تعاطيهم مع النصوص الكبرى، دينية كانت أو أسطورية أو معرفية أو أدبية، إنما يطورون أدوات الفهم الخاصة بهم بالاستعانة بما ينتجه العقل الإنساني من معارف. هذا شيءٌ ليس عيباً على الإطلاق، ولا يمكن أن يُتّهَم أحد بأنه إنما يحاول أن يشوّه الدين بتوسل أدوات فهم لا تنتمي إلى دائرة سياق حضاري محدّد. العقل الإنساني عقل يتواصل، وينتفع بعضه من بعض، ويستفيد بعضه من بعض. ما أخذه المسلمون عن اليونان استفادوا منه واستعانوا به وأثرى عندهم قدرات الوعي والفكر والفهم، وطوّر نظرهم إلى الدين وإلى القرآن. ليس صحيحاً أنّ ذلك مُضِر.

 

يحيى أبو زكريا: لكنه شتّتهم في النهاية، فوُجِد فريقان، فريق مع الفلسفة.

 

خنجر حمية: هذه عوامل متعددة، ليس الموضوع موضوع الاستفادة من اليونانيين، هناك موضوعات أخرى ساهمت في تشتيت العقل المسلم وفي دفعه نحو الانحدار وفي تفكيكه في ما بعد وفي بلوغنا مرحلة من مراحل الخواء الفكري والمعرفي في القرن السابع. الإشكال الأكبر أنّ تقليد الهجوم على الفلسفة بدأ مع الغزالي. الغزالي بنزعةٍ سلفية معروفة كان يفترض أنّ الفلسفة اليونانية إنما تتنافى في جوهر ما تدلّ عليه وتعنيه مع حقائق الإيمان، مع حقائق الإسلام، وأخذ لذلك نموذجاً أراد أن يناقشه وأن يُبيّن صحة وجهة نظره من خلال ابن سينا، وكلنا يعلم أن لا الغزالي، وكل الدارسين المعاصرين يعلمون أن لا الغزالي ولا ابن سينا كان يعرف حقيقة المشكلات، منابع المشكلات التي اشتغل بها وعالجها. ابن سينا كان يفترض حينما اشتغل بهذه المشكلات الكبرى في سياق تفكيره، كان يفترض أنّه إنما ينهل من أرسطو وأن أرسطو مفكر رفيع الشأن عالي المقام، وأنه بلغ الذروة في تنظيم المعرفة وفي دقّتها، افترض أنه إنما يستفيد من هذا الفيلسوف الذي ترك بصماته قروناً متعدّدة في اليونان وفي الإسلام، والغزالي كان يفترض أنّ ابن سينا حينما نظّم فلسفته وعرضها إنما كان يعرض آراء أرسطو.

ليس الموضوع كذلك، والتراث الفلسفي العربي المسلم منذ الكندي حتى الفارابي حتى ابن سينا امتداداً حتى الطوسي، وفي الجانب الآخر حتى ابن رشد، التراث الفلسفي هذا العربي الإسلامي هو خليط هجين لا يكاد يتبدّى وجه التفاوتات التي توجد بين عناصره، خليط من فكر أرسطو وأفلاطون وسقراط والفيتاغوريين والرواقيين والمدارس الاسكندرية المتأخرة وشيء من تأثيرات اللاهوت المسيحي الذي ركّز نظامه المعرفي والفكري في العصور المتأخرة للمدرسة اليونانية على الاسكندرية، على أفكار الاسكندرية، أفلوطين على وجه الدقة. هناك مؤثرات لا حدود لها في عقلنا الإسلامي، قيمة ما أنتجه المسلمون أنّه أعاد تنظيم هذا الفكر، وحينما وجد أنّ ثمة تفاوتات بين ما يُنسَب إلى أفلاطون تارة وإلى أرسطو تارة أخرى حاولوا أن يوفّقوا بين هذه الآراء وبين هذه المذاهب، وبالتالي كمٌ هائلٌ من الأفكار المعرفية والفلسفية دخل عالم الإسلام منذ القرن الثاني.

 

يحيى أبو زكريا: نعم، دكتور خنجر، ولعلّ من أجل ذلك بعض المستشرقين الذين كتبوا عن ابن سينا وابن رشد والكندي يقولون شكراً للمسلمين، أعادوا إنتاج الفلسفة اليونانية وصدّروها لنا، بمعنى أنّهم أعطوها منهجية معينة، برمجوها، وضعوا لها فهرست وأعادوها إلينا، وكأنّ المسلمين فسّروا الماء بالماء بعد جهدٍ وعناء.

دكتور صلاح الدين، بهذا اللحاظ، العقل المسلم كان مصاباً بداءين، بناء على المبنى الذي طرحه أخي الأستاذ الدكتور خنجر. كانوا مصابين بداء الهجنة اليونانية، وأنت تعلم أنّ الفارابي كان يعتبر أرسطو وأفلاطون من الأنبياء وكان يسميهما بالمعلمين الكبار، وأصيبا بداء الجمود على النص، السلفية المتراكمة التي ملأت الفكر الإسلامي بالحشو، أيّ رواية تأتي من الإسرائيليين مقبولة، أيّ رواية تأتي من بيزنطة مقبولة، فصارت الأحاديث النبوية من الكثرة بمكان كما لو أن رسول الله عاش 500 سنة وكان يتكلم 24 ساعة في اليوم. فبين الحشو والوضع في الحديث وبين الوضع اليوناني واللمسات اليونانية في العقل المسلم، كيف كان يتبدّى العقل الإسلامي آنذاك؟ وهل هذا ما يُعتبَر إن صحّ التعبير طريق الخلل في العقلانية الإسلامية اليوم؟

 

صلاح الدين عبد الله: أنا لا أقبل هذا القول لا جملة ولا تفصيلا. أنا أشرت إلى أنّ الفِرق كانت قد نشأت قبل المعرفة بالثقافة اليونانية، وأشير ها هنا إلى شيئين أعتقد أنّهما يؤكدان رأيي، أحدهما قول الجاحظ كل رأيٍ للروم إنما هو عن روية وكلّ رأيٍ للعرب إنما هو عن بديهة. أقصد أو يقصد الجاحظ أنّ الروم تقدّم المقدّمات وتستنتج النتائج، وأنّ العربيّ لا حاجة به إلى هذا، لأنّه قادرٌ على تلخيص الفيرال ووضعها في سياقها الذي يتناسب مع طبيعته العقلية.

أما في ما يخصّ علم الكلام الذي نشأ بالفعل قبل الترجمة، فمثلاً دعني أشير إلى مناظرة ابن عباس مع نافع ابن الأزرق، دعني أشير إلى المناظرات بين القدريين والجبريين في العصر الأموي الأول، دعني أشير إلى حديث حاطب بن ابي بلتعه مع المقوقس. هذه أمورٌ كثيرة تدلّ على طبيعةٍ خاصة في العقلية الإسلامية. غاية ما هناك والذي قلته من قبل أنّ المتكلّمين إذ استعانوا بأدوات الفلاسفة في أوقاتٍ متأخّرة إنما استعانوا بها ليصقلوا بها المهنية، مهنيّتهم، وهكذا كل علم حين ينتقل من الأفراد إلى المدارس يحتاج إلى قدرٍ من المهنية، إلى قدر من الصناعية. هذا هو ما أفاده المتكلمون من كتب الفلاسفة، ولكن مثلاً ستجد أبا علي الجبائي وأبا هاشم ابنه يتكلمان عن شيءٍ اسمه الحال بين الوجود والعدم، مناقضين تماماً لما يقوله أرسطو أنه لا واسطة، سوف تجد أبا النضر نفيسا ينتقد أرسطو نقداً شديداً، بل إنّ أبا العباس الناشئ قبل الغزالي بحوالى قرن صنّف كتباً في الرد على الفلاسفة، معنى هذا، ولنلاحظ نقطة أخرى أود الإشارة إليها، مهلاً سيدي، مهلاً لو سمحت حتى أستكمل فكرتي.

أنت حين تتكلم عن الفلسفة تذكر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، فما بال المدارس الأخرى؟ ما بال مدرسة أبي سليمان السجستاني؟ ما بال البغدادي أبي البركات؟ وكثير من المدارس المختلفة الفلسفية.

 

خنجر حمية: مشائية.

 

صلاح الدين عبد الله: ليست بمشائية، ليست بمشائية، إنما لها، جمعت بين تراث شرقي وأفلاطونية حديثة، وفي تفكيرها بعض الأصالة لا نستطيع أن ننكر ذلك، مثلا تعاليق أبي سليمان السجستاني على كلام أفلاطون جدير بالتأمل، وأنا أُحيل ها هنا إلى كتاب المقابسات الذي وضعه ابن حيّان في القرن الرابع فليس الغزالي.

 

خنجر حمية: دكتور، أنت تتحدث عن القرن الرابع، هذه المدرسة الإنسية، السجستاني وابو البركات البغدادي في القرن الرابع.

 

صلاح الدين عبد الله: مثال، مجرّد مثال.

 

خنجر حمية: وكانت الفلسفة بلغت أوجها في عالم الإسلام، وصاحب المعتبر أبو البركات البغدادي تأثّر بابن سينا ومتأخّر عنه.

 

صلاح الدين عبد الله: مهلاً يا سيدي، أنا أعرف هذا، أنا أشير إلى اتجاهات ومدارس فلسفية سوى المدرسة المشائية، أما علم الكلام إلى منتهى القرن الأول الهجري، فقد كان إسلامياً صرفاً، لا تستطيع أن تجد في مناقشاته كلاماً عن الاسطقس أو الأيسيات او الليسيات أو الصورة أو الهيولة أو ما يجري مجراها، هو كلامٌ عربي بلغة عربية بطريقة الاستدلال العربية التي عرفها المسلمون الأوائل. أضف إلى هذا أنّ القرآن الكريم فيه من الموضوعات الوجودية والمعرفية ما يَهِب المسلمين أصحاب العقول الراقية قدرة على أن يستنبطوا ذلك.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، في هذا السياق، واحدة من الإشكالات الكبيرة في تاريخ العقلانية الإسلامية والتفكير الإسلامي أنّ المسلمين تركوا القرآن كمنطلَق لصناعة النهضة والرؤية العقدية والكونية والحياتية وذهبوا.

 

صلاح الدين عبد الله: ليس صحيحاً.

 

يحيى أبو زكريا: أقول لك كيف.

 

صلاح الدين عبد الله: لا، لا، لا.

 

يحيى أبو زكريا: إذا سمحت، لم أكمل فكرتي بعد. دكتور صلاح، كلّ ملة، كلّ نحلة، كلّ طائفة أخذت من القرآن ما يقوّي موقفها، تركوا القرآن جانباً وذهبوا إلى النص اليوناني، وإلا ابن رشد عندما قال أنّ الأجساد لا تُحشَر إنما الأرواح هي التي تحشر فقط، من أين جاء بهذا؟ أليس من الفكر الأرسطي القديم؟

 

صلاح الدين عبد الله: لا، لا، لا، أرجو أن تفرّق بين ابن رشد كقاضٍ مسلم وبين ابن رشد كشارح لأرسطو، حين تتكلم عن إنكار المعاد، أرجو أن تعطيني الفرصة لأستتمّ فقط هذه الفيرال لو سمحت، ابن رشد حين كان يشرح كتب أرسطو كان يستشهد بآراء الفلاسفة الذين يرون إنكار المعاد.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، سنستكمل كل الأفكار وصولا إلى الغزالي مع الدكتور عبد السلام.

صاحب إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي الطوسي لأنه من طوس، يبدو أنّ إغراقه في النصّ القرآني، في النصّ الحديثي، في تربيته الأخلاقية جعلته يتخذ موقفاً من الفلاسفة. لماذا بنظرك نحا هذا المنحى وهو إيراني والإيرانيون معروفون بالعقل البارد؟ المدارس الفلسفية العالمية، العقل الإيراني والألماني واليوناني، العرب أنتجوا الشعر للأسف الشديد. لماذا نحا هذا المنحى في نظرك؟

 

عبد السلام راجح: حقيقة هي ملاحظات سريعة أتعرّض لها لأجل تمام المعنى، الذي نخدم به السادة المشاهدين. حينما يتحدث الأستاذ الدكتور خنجر عن حديثي في المعايير، فأنا أؤكّد أنّنا كأمّة إسلامية نملك خصوصية، أبدًا لم يكن في طبيعة تفكيرنا أن ننكر الإفادة من الآخر لأننا أبناء القول والأثر الذي يقول الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى بها. وبالتالي أنا لا أنكر أنّ ثمّة تعاوناً، أنّ ثمة إفادة من ذلك الرصيد الهائل من الفلسفة اليونانية التي نعلم أنّها نتاج معرفي عالمي جدير بالاهتمام وبالعناية، ولا مانع أبداً من أن نقتبس منه ضمن فيرال الخصوصية التي تُميزنا.

لكنني أستغرب حينما يتحدث عن الأخلاق والنظر العقلي والنبوءة، ثمّ أردفتم سيادتكم في موضوع أدوات التحليل، ونحن حقيقة لسنا خلواً من هذه الاصطلاحات في منظومتنا المعرفية المستقلة عن أيّ مؤثرٍ خارجي، مع أنني وأنا أخاطب الآن المشاهدين، يروننا في القرن الواحد والعشرين، ونحن في حال من التواصل على كلّ المستويات، وأشرت جنابك إلى موضوع العولمة وموضوع الكوكبة، فنحن لا ننكر أبداً أن يكون العالم متعاوناً ومستفيداً من بعضه البعض خاصة في ظل هذه الحال المعرفية التي جاء الإسلام ليعلن أننا لا نغلق قلوبنا فضلاً عن عقولنا عن أيّ معرفةٍ يمكن أن تُسهِم في ثراء هذه العلوم والمعارف.

نحن حينما نتحدث أنّ الشريعة تَصلُح لكل زمان ومكان وتُصلِح كل زمان ومكان باعتبار ذلك البعد الذي نعتقده في أنّ هذه الشريعة هي إلهية المصدر، وهذا الإله الذي هو فوق كل شيء ويعلم كل شيء في ما نعتقده نحن أبناء الملّة فإننا لا نجد غضاضة أبداً من أن نمدّ العين إلى أي فكر إنساني، هو وضعيٌ، نعم، وأنا في موضوع الوثن، أنا أقف في قضية الوثنية حيال تلك الأفكار التي أخذت طابعاً وثنياً، لأقول هذه أنا لست معنياً بإضافة حالات تترجمها لتصبح موائمة لديني ولعقيدتي لأنني مستقل بهذا الأمر استقلالاً تاماً، ولكن هل كل ما جاء به الفلاسفة.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، عفواً أدركني فاصل، ستعود إلى حديثك بُعيد الفاصل مباشرة، أعدك بذلك.

مشاهدينا فاصلٌ ثم نعود إليكم، فلا تقطعوا أفكاركم بفلسفة المسلمين والإغريق.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

صدق الله العظيم

 

 

المحور الثالث

 

يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد.

دكتور عبد السلام، كنت تتحدث، وليس من الفلسفة قطع الأفكار، فعذراً، ضرورات الفواصل. هلا أكملت فكرتك رجاءً؟

 

عبد السلام راجح: بكلّ سرور، بارك الله بكم. أنا أقول باختصار شديد، الفلاسفة المسلمون استطاعوا أن يضيفوا إضافات جديدة إلى التراث الفلسفي الإنساني، وهذا لا ينكر أنّ الأصل في هذه الحال الفلسفية إنما وفدت إلينا من اليونان باعتبار أنّها أمّ هذا الفنّ وهذا العلم، لكنهم حينما أضافوا إلى التراث الإنساني إضافات جديدة جعلوا في هذه الإضافات محلاً للجانب الديني في الفكر الفلسفي، ما أضفى هذه الحال الوجدانية والتي فعلاً أستغرب حينما أقرأ في فكر أرسطو، ولعل الأساتذة المتخصصين يؤكدون هذا أو يدعمونه أو ينفونه لإيغالهم في التخصص أكثر منّي، أنّي أجد في فكر أرسطو انه بعد إيغاله في دراسته للفلسفة وبعد وضعه لهذه النظريات التي اقتبس منها العالم أجمع، وصل في نهاية كلامه إلى حال أطلق عليها الجذب، أطلق عليها الوجدان، أطلق عليها الحال التي يمكن أن نطلق عليها الإيمان بمفاعيله، وأقول ذلك في كثيرٍ من أولئك الفلاسفة الكبار الذين لم يترددوا في أن يصلوا إلى حال عُرفت بالنرفانا بمصطلح الكونفوشيوسية أو بمصطلح البوذية، هذه الحال الإيمانية هي التي أريد أن أعوّل عليها.

لكنني أريد أن أكمل الفقرة الأخيرة التي كنت قد انتهيت إليها. نحن حينما نتحدث عن أنّ الشريعة الإسلامية باعتبار إلهية مصدرها تصلح لكل زمان ومكان وتُصلِح كل زمان ومكان، هذا لا يعني أبداً أنني أغلق عيني عن فكر يمكن أن أستفيد منه ضمن حال إنسانية عامة تنسجم مع مصطلحي الإيماني الذي عنوانه التوحيد، الذي عنوانه الوحي، الذي هو معصومٌ من أن يخرج عن نمط المصداقية الواقعية الأكيدة، لأنّه إلهي المصدر كما أسلفت. فأنا أقول لا مانع البتة في مصطلحنا الإسلامي، ونحن الآن نريد أن نقول للعالم في هذه الفترة المتقدمة من الزمان والعصر، والتي أضحى العالم قرية واحدة كونية، يتعاون في التكنولوجيا، يتعاون في الأفكار، نستورد أفكار الآخرين لنستفيد منها في بيئاتنا العربية والإسلامية الدقيقة. الآن مصحفنا موجود على الجوال، هل يمكن أن ننكر وجود هذا المصحف على الجوال لأن الجوال هو نشأة غير إسلامية؟ بالعكس أنا لا بدّ من أن أفتح قلبي على كل العالم لأجل أن يتعانق العالم في حال من الخدمة المعرفية الثقافية التي تجعله في صعيد واحد. أما حالات الخصوصية فهذه تبقى في إطارها ولا يمكن أن يعترض عليها أحد لأنها تمثل خصوصية كل أمة وكل شعب وكل أصحاب دين.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، لا شكّ أنّ نتاجات العقل البشري هي ملك للإنسانية، والإنسان يجب أن يستفيد من الإنسان، وأيّ إفراز عقلي لأي مدرسة عقلية إنسانية، وخصوصاً إذا كانت تصب في مصلحة الإنسان العامة، فهذا الفكر بشكل عام هو مقبول من الجميع، وبهذا ننادي تلاقح الأفكار وتلاقي الأفكار.

دكتور خنجر، دعوى أنّ العقل المسلم كان ضعيفاً عن التفلسف، وبالتالي الإستعانة بالآخر اليوناني أو الإغريقي، هل هي صحيحة؟ هل بالفعل العقل المسلم ضعيف؟ أين تموقع العقل المسلم؟ هل بالفعل أنت، وكان نتاج هذا الموت ظهور السلفية وظهور التكفير والإقصاء وقتل الآخر؟

 

خنجر حمية: أنا أعتقد بأنه لا يوجد عقل قاصر عن أن يُنتِج مظهراً منظّماً في الوجود، حتى في شعوبٍ يبدو من دراسة بنيتها أنّها شعوب بدائية، منذ 7000 عام أو يزيد والبشر يفكرون في العالم من حولهم، ويضعون تصوّرات لإجابات لأسئلة وجودية تتصل بحياتهم وبوجودهم.

 

يحيى أبو زكريا: وهو يملك هذه القدرة ذاتياً.

 

خنجر حمية: طبعاً المسلمون شأنهم شأن غيرهم يملكون القدرة على أن يفكّروا تفكيراً منظّماً في الوجود من حولهم، ويستطيعون بقدراتهم الذاتية أن يضعوا إجابات لاسئلة، لكن لا يستطيع إنسانٌ على الإطلاق أن يضع إجابة لسؤالٍ غير موجود. الإجابة إنما تتولّد عندي أو أندفع محاولاً بناءها عندما ينشأ عندي سؤال تولّده حركة اجتماعي، تولده تعقيدات حياتي، المشكلات الحضارية التي تعصف بي، في الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد. الفكر وليد التجربة.

 

يحيى أبو زكريا: والبيئة كما يقول فرويد.

 

خنجر حمية: طبعاً لكن لم يكن العرب في بداياتهم يعيشون مثل هذه المآزق الكبرى ليضعوا إجابات على أسئلة لم تكن موجودة عندهم. حينما أصبحت هذه الأسئلة موجودة اندفع المسلمون للإجابة عليها.

 

يحيى أبو زكريا: لكن دكتور خنجر، قلت أنّ العقل المسلم قادر، يملك ديناميكية شأنه شأن العقل البشري، وبالتأكيد هو عقل بشري. لكن كيف تفسّر كبريات التصدعات، الإنهيارات، الانكسارات؟ لا في الميتافيزيقا أفلحنا لا في الوجود أفلحنا، لا في كل التفاصيل، عندما تتحدّث عن تقدّم ما في اليابان، في كوريا الجنوبية، أو الشمالية، تربط هذا التقدم بعقل مخطّط، منظّم، صح؟ لماذا في العالم العربي والإسلامي لا يوجد ما نراه من رفاهية، من تقدّم؟

 

خنجر حمية: المسألة ليست مسألة فلسفة على وجه الدقة. المسلمون في القرن الرابع أنتجوا تراثاً يكاد يساوي أضعاف ما بلغهم، أضعفاً مضاعفة ما بلغهم من العقل اليوناني من تراث، ومثل هذا التراث انتقل إلى الغرب في ما نعرفه نحن بالقرون الوسطى، واستفاد منه الغربيون حتى نشأت مدارس كبرى في التفكير الإنساني في القرون الوسطى تُنسَب إلى المشرقيين، الرشدية الأوروبية، تلامذة ابن سينا اللاتين، الفلسفة المسيحية برمتها إنما استعانت بالتفكير الإسلامي في محاولة بناء لاهوتها. دعنا نكون منصفين مع المسلمين، العقل المسلم حتى القرن الرابع، القرن الثالث والرابع ومنتصف الخامس كان عقلاً مبدعاً في جميع ميادين المعرفة.

 

يحيى أبو زكريا: تعطيني مصاديق لهذا الإبداع مثلاً؟

 

خنجر حمية: نعم في الفلسفة أكبر تراث فلسفي نشأ حول الفلسفة اليونانية الموروثة هو التراث العربي الإسلامي. في الفلك أنتج المسلمون ما بقي الغرب يستفيد منه حتى القرن الثامن عشر، عند البيروني مثلاً، عند الطوسي وجهوده في مرصد مراغة ومؤلفاته الفلكية. في الطب، وكلنا يعرف الأطباء المسلمون الكبار. الموضوع لم يكن موضوع فلسفة وفكر نظري وميتافيزيقا ولاهوت، في الميدان المعرفي أنتج المسلمون سلسلة هائلة من المعارف والأفكار بقي الغرب يفيد منها حتى القرن الثامن عشر.

المشكلة ليست مشكلة معرفة وإنتاج معرفي. المشكلة مشكلة حضارية، مشكلة مأزق، سلطة وبشر.

 

يحيى أبو زكريا: جيّد. قلت أن هنالك إنجازاً وهنالك إنتاج، وهذا محل توافق بين المفكرين العرب والغربيين. متى بدأ اغتيال العقل العربي والمسلم؟ متى بدأ التصدّع في العقل الإسلامي؟ هل من مرحلة ما؟ هل من أسماء ما؟ حتى نعرف كيف بدأ هذا الاختلال في التوازن بيننا وبين الغرب.

 

خنجر حمية: أنا أفترض أنّ المشكلة بالأساس مشكلة سياسية.

 

يحيى أبو زكريا: في العالم الإسلامي.

 

خنجر حمية: نعم، مشكلة العالم الإسلامي هي مشكلة الاستبداد السياسي وانعدام الحريات، ومشكلة مأزق سياسي وليس مأزقاً معرفياً، سياسي اجتماعي وليس مأزقاً معرفياً. لم يستطع المسلمون الانتقال بتفكيرهم السياسي من فيرال السلطان الذي يحكم باسم الله والتي تم التنظير لها في العصور الأموية الأولى وترسّخت بفعل جهدٍ معرفي. لم يستطع المسلمون أن يخرجوا من فيرال السلطان هذه حتى القرن السابع، وفي القرن السابع كانت تشظيات الاجتماع البشري الإسلامي هائلة ممّا سمح للاجتياح المغولي أن يدمّر كل مقومات الحضارة العربية الإسلامية في فترة زمنية وجيزة.

المشكل ليس مشكلاً معرفياً، إنما هو مشكل سياسي سياسي اجتماعي، وهذا المشكل السياسي الاجتماعي أنا أربطه على وجه الدقة برؤية دينية سلفية تم ترسيخها في الأساس لمنح مشروعية للسلطان على كل حال، هذا الذي لم يكن بأيّة حال من الأحوال يمكن مساءلته، لا من قِبَل سلطةٍ دينية ولا من قِبَل جماهير. وبالتالي ينبغي الفصل، أنا باعتقادي، بين المناخ الحضاري الذي انحدر بسرعةٍ هائلة بعد القرن السابع نتيجة مشكل سياسي وبين المعرفة التي بقيت تُنتَج في العالم الإسلامي حتى فترات متأخّرة. بالرغم من كل الانهيارات السياسية والخواء الحضاري والتشرذم الذي عانى منه الاجتماع العربي الإسلامي بهذه الفترات، بقيت الفلسفة تنتج أرقى تصوّراتها وأفكارها حتى القرن العاشر، مع الملا صبرا الشيرازي مثلاً.

 

يحيى أبو زكريا: وهذا ما ذهب إليه في موضوع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” عندما أشار إلى أن السلطان الحاكم قد جنى على أمّتنا بالكامل، وأشار إلى تحالف السلفية المقيتة والحاكمية الظالمة.

دكتور صلاح الدين عبد الله، لعلّنا بحمد الله توافقنا على أنّ العقل الإسلامي أنتج فكراً، أنتج معرفة، وهذا العقل بات علامة فارقة في الغرب. الغربيون عندما يتحدثون عن ابن سينا أو أفي سينا كما يسمّونه بكثير من التعظيم والإجلال، بل إنّ بعضهم يتساءل، أين المسلمين، كيف تأخروا وهم يملكون ابن سينا وابن رشد.

نفس السؤال الذي يهمني في حلقتي هذه والعالم الإسلامي اليوم يزداد انكساراً وانحداراً وتقاتلاً والمسلم يقتل المسلم، كيف تسلّل العطب إلى العقل المسلم، إلى البُنية المعرفية الإسلامية، إلى الفلسفة الإسلامية؟ متى بدأ الانحدار، السقوط، الانهيار، الانكسار والتدني والانبطاح؟

 

صلاح الدين عبد الله: أولاً قبل أن أُجيب عن هذا السؤال دعني أطرح أنا سؤالاً آخر يؤكد أنّ للمسلمين أو للعرب المسلمين أو للمسلمين بصفة عامة شخصيتهم المعرفية التي ميّزتهم، حتى وهم يترجمون أو حين يُترجم لهم. مثلاً لماذا لم تُترجم إلياذة هوميروس وأوديسته، وأشعار فيرجن وهوراس وأوفيد وشرائع سولون وحكم شيشرؤول وخطب شيشرون وصور فدياس وموسيقى ارستوكسيم؟ كل هذا لم يُترجم إلى الحضارة العربية، كل هذا لم يكن لهم به من علم، كذلك مسرح سيفوكليس ويروبيدس واسخيلوس وارستوفان لا علم للعرب به.

الذي حدث هو أنّ كلمة فلسفة كانت عند العرب كما كانت عند الذين من قبلهم تشمل الطبّ والفلك والهندسة والرياضيات وما جرى مجراه. فحين احتاج المسلمون إلى هذه العلوم العملية والنظرية، اضطروا إلى ترجمتها جميعاً في حقيبةٍ واحدة، فمثلاً يُقال هذا متفلسف فلكي وهذا هندسي وهذا صاحب علمٍ بالنجوم وهذا صاحب زجر، حتى الزجر أدخلوه في الفلسفة، ولهذا أسبابه التي لا يتسع لها الوقت الآن.

نعود إلى سؤالك، لماذا؟ لأنّ، ببساطةٍ شديدة، لأنّ كلّ حاكم لا ينظر إلا إلى تحت قدمَيه وعلى كرسيّه فقط، لأننا قد رزحنا قروناً طويلة جداً تحت طغيانٍ لا مثيل له حتى فقد الناس الثقة باليوم والغد وفقدوا الثقة بكلّ ما له قيمة، حتى أصبحت العلاقة لا تنظّمها شريعة ولا يقودها قانون، وإنما يقتصّ بعضُنا من بعضٍ متى استطاع إلى ذلك سبيلاً. هذه اللا مبالاة أو هذه العدوانية خلقها الإحساس باليأس لدى الأمم الإسلامية قديمها وحديثها، للأسف الشديد تحوّلت الخلافة إلى إمبراطورية، وحين صارت إمبراطورية اتّسعت، وحين اتسعت تمزّقت، وحين تمزّقت أصبح لها حكّام عديدون، وحين أصبح لها حكام عديدون أصبحوا يقتتلون في ما بينهم. ألم ترَ إلى الأندلس بعد أن لبث فيها العرب ثمانية قرون متصلات كيف ازيلوا عنها كأن حضارتهم لم تغنَ بالأمس وما ذلك إلا لأطماعهم بعد ان جاؤوا ابن طفيل وابن مسرة وابن باجا وابن رشد وابن هانئ الأندلسي بعد أن كانت للحضارة قدمان طويلتان في الأندلس، إنقرضت حضارة العرب من الأندلس كأنها لم تغنَ بالأمس وما ذاك إلا لأطماع الطامعين، وكما قيل لآخر ملك ابكِ كالنساء على مُلكٍ لم تحافظ عليه كالرجال.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح، أذكّر أنّ هذه المقولة الشهيرة لأم عبد الله عندما كان يغادر الأندلُس وأخذ يبكي، فقالت له ابكِ كالنساء مُلكاً عضوداً لم تحافظ عليه كالرجال.

دكتور صلاح الدين، هنا يرد إشكال يورَد عليك إن صحّ التعبير. أشرت إلى أنّ المسلمين احترموا العقل، احترموا الفلسفة، وكانوا مع التفكير ومع التفلسف. لكن كيف تفسّر إعدام المسلمين أو العالم الإسلامي أو حتى الحاكم الطاغية للسهروردي، لمحنة ابن رشد في الأندلس عندما أحرِقت كتبه، وكانت سعاد الأندلسية أفضل من كل مفكري العالم الإسلامي آنذاك؟ كيف تفسّر اغتيال الحلاّج وقتله، ابن المقفع؟ أمة تحترم التفكير وتجل التكفير، أمّة تحترم وتدعي.

 

صلاح الدين عبد الله: مهلاً، كيف تحترم أنت إعدام سقراط في أثينا في عزّ أوجّ الحضارة الإغريقية؟ كيف تفسّر إحراق كتب بروتاغوراس لا لشيءٍ إلا لأنه قال أنا لا أعرف إن كان الآلهة موجودين او غير موجودين؟ أحرِقت كتبه. كيف تفسّر مطاردة الإغريق في عصر النهضة لبيركليز وحبيبته ازبازيا وفيلسوف اللامتناهي أناكسا غوراس؟ هذه أمورٌ حين يحاول الحُكّام أن يسترضوا بها العامة أو يدخلوا فيها العامة فإنها لا بدّ أن تفسد، لا بدّ أن تفسد. الذي حدث مثلاً أنّ أخناتون حكم مصر 19 عاماً وكان قد ندّد بديانة أوزوريز فلمّا مات، كلّ ما كان باسم أتون تحوّل إلى اسم آمون وعادت الأمور أدراجها مثلما كانت من قبل، وقُل مثل هذا في السومريين والبابليين واليونان والفرس والرومان. ما من أُمة خلت من هذا، بل قُل مثل هذا في الحضارة الغربية الحديثة، هذا أيضاً موجود، هذا أيضاً موجود. ما من حضارة إنسانية إلا وفيها هذا اللون.

 

يحيى أبو زكريا: كونه موجوداً ليس دلالة على صحته، إنّه يشكل قمة الانهيار عندما يُعدَم المفكر وعندما يُقتَل التنويري، فتلك وصمة عار في جبين أي أمة.

دكتور عبد السلام راجح، اليوم للأسف الشديد مع الانفتاح على وسائط الاتصال، مع التأثر العربي بالإفرازات الغربية القادمة من الغرب، لا نكاد نجد نتاجاً فلسفياً إسلامياً.

 

عبد السلام راجح: حقيقة لأجل تكامل الحلقة كنت قد سألتني قبل قليل عن الغزالي رحمه الله، وأخذَنا الحديث، وأضفتم إضافات مهمة، فلأجل السادة المشاهدين أختصر بكلمتين وأنت تسأل عن هذا الغزالي من طوس كيف نحا هذا المنحى. الحقيقة هو رجل ربي على يد إمام الحرمين الجويني وهو أشعري، وبالتالي نحا منحى الأشاعرة وهو صوفي، وكتابه إحياء علوم الدين يؤكّد على هذا المعنى.وبالتالي يمكن أن نعلّل هذا الذي نحاه في محاربته لقضية الفلسفة باعتبار نشأته الصوفية الأشعرية، وباعتبار انتقاده لقضايا راسخة في الفكر اليوناني، خاصة في ما يتعلق بأنّ الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلى غير ذلك من الاعتبارات التي جعلته في هذا السياق، ولعلّ هذا يُغني في سؤالكم حول جزئية الغزالي.

أما في ما يتعلق بسؤالكم الثاني، وهو حقيقة فيه جزء من الواقع، والجزء الثاني أقول، نعم، في الإطار الفلسفي، أنا أزعم أنّ المؤلفات نزلت إلى الحد الأدنى، لا أقول عقمت فأنا حقيقة أمام مؤلفات راسخة، هناك ندرة في المؤلفات الفلسفية، وهو أمرٌ يحوج إلى ضرورة إعادة النظر في هذا العلم، نحن الآن لمّا نتحدث يا سيدي عن الفلسفة كمصطلح عام ونتحدث عن شهادة تسمى الـPHD  (Philosophy High Degree)، نحن نتحدث عن علم الفلسفة الذي هو أمّ العلوم، فتحته الطب وتحته الهندسة وتحته الشريعة وتحته العلوم التطبيقية وتحته، هذا يحيجنا فعلاً أن نُعيد النظر في هذه المادة التي لمّا ترجمها المسلمون، وأنا أشكر الدكتور صلاح على معانيه، وأشكر الدكتور خنجر على هذا التنويه لما كان من إبداعٍ في القرن الرابع وما بعده لعلومٍ من أبناء الإسلام والعروبة ملأت الدنيا نوراً وعلماً، أقول نحن بحاجة إلى أن نُعيد هذه النظرة. أنا لا أقبل أبداً أن نكون أمة استهلاكية نستهلك ما عند اليابان والكوريتين وعند الغرب، هذا ممّا يعيب، والاستهلاك ليس استهلاك الأجهزة فقط يا أستاذ إنما هو في الفكر.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، عندما قتلنا التفكير في العالم الإسلامي واستبدلناه بالتكفير، لا يمكن مُطلقًا أن نتحدث عن عقلانية وفلسفة إسلامية.

أختم معك دكتور خنجر. بإيجاز شديد وفي كليمات مختصرات، هل لدينا اليوم، أي سنة 2015، نتاج فلسفي إسلامي بنى على القديم أو يا سيدي انطلق من جديد، لا يهم، هل لدينا ملامح مدرسة فلسفية إسلامية معاصرة؟

 

خنجر حمية: للأسف لا يوجد، ليس فقط في الفلسفة، إنما مثلاً في الكلام أو اللاهوت، بعد جهد محمد عبدو سنة 1901 بكتابه “رسالة التوحيد”، هذا الكتاب الذي قامت الدنيا ولم تقعد لأجله، لا يوجد جهد كلامي يُعتَدّ به في العالم العربي الإسلامي، ولا جهد فلسفي.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور خنجر، الحلقة وصلت إلى تمامها. لا يوجد عندنا علم كلام ولا يوجد عندنا فلسفة إسلامية. ماذا عندنا؟ عندنا التكفير والقتل والسلخ والذبح.

مشاهدينا، دكتور خنجر حمية شكراً جزيلاً لك، أمتعتنا، الدكتور عبد السلام راجح شكراً جزيلاً لك، الدكتور صلاح الدين عبد الله شكراً جزيلاً لك.

مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها. إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

صدق الله العظيم

شبكة الميادين الإعلامية قناة فضائية عربية إخبارية مستقلة انطلقت في الحادي عشر من حزيران من العام 2012 واتخذت من العاصمة بيروت مقرا لها.

جميع الحقوق محفوظة

هل كانت الفلسفة اليونانية مادة التفكير الفلسفي في الإسلام و أصبحت جزء منه؟ وهكذا إختلط النص الديني الإسلامي بالموروث الحضاري اليوناني فبدأ الضياع في العالم الإسلامي، الضياع الفكري والفلسفي؟ وأين أصبح النص بعد تحول النص اليوناني المعقلن إلى نص بديل؟

يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله وبيّاكم وجعل الجنّة مثواكم.

جدلٌ كبيرٌ ومثيرٌ اندلع في الأزمنة الغابرة وما زال الإشكال قائماً إلى يوم الناس هذا. ويتمحور الإشكال حول ماهية الفلسفة الإسلامية، وهل هي نتاجٌ خالصٌ وقحّ للعقل المسلم، أم أنّ الفلسفة الإسلامية هي استيرادٌ وتعريبٌ للفكر اليوناني والإغريقي، والذي أضفي عليه طابع الأسلمة؟

وقد حمل أبو حامد الغزالي راية الحملة على الفلاسفة المسلمين، واعتبر أنّ المترجمين لكلام أرسطو لم ينفك كلامهم عن تحريفٍ وتبديلٍ محوج إلى تفسيرٍ وتأويل. وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام، ويذكر الفارابي وابن سينا، ويقول أن هؤلاء تأثروا بأرسطو وأفلاطون وأنّ البعض كان يعتبر هؤلاء أنبياء.

فليعلم أننا مقتصرون على رد مذاهبهم، بحسب نقل هذين الرجلين. هذا رأي أبو حامد الغزالي. أما ابن تيمية الذي كان يكفّر الفلاسفة أيضاً، فقال “أما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحدٌ لكثرته وتفرّقهم، فإنّ الفلسفة عند المتأخّرين كالفارابي وابن سينا هي من نسج ما ذهب إليه أرسطو وأتباعه”، وهو صاحب تعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعي.

ويذهب البعض إلى القول بأن الأثر الفلسفي الإغريقي تسلّل إلى بُنية الفلسفة الإسلامية على مستوى المفهوم الفلسفي، وحتى على مستوى المضامين، وخصوصاً عندما انطلقت بعض العقول الإسلامية من القول أنّ مذاهب الفلاسفة المتقدّمين كانت توحيدية. وهناك من اعتبر أرسطو وأفلاطون من الأنبياء. وهنا يُشار إلى الفارابي المتأثّر بهما، والدكتور مصطفى محمود كان يقول “هل فلاسفة الإغريق أنبياء أم رُسُل؟” ويقول في هذا السياق “إن أرسطو كان يرى أنّ الله خلق كل شيء وأفلاطون كان يُسمي الله مثال الخير وكان يرى أن العالم ينقسم إلى عالمين. أما فيكن فكان يسمي الله بالمطلق وكان يرى أن الأفكار تتلاحق وتتكاثر وتصعد إلى الله سبحانه وتعالى”.

اما بيرغسون وهو معاصر بتعبير مصطفى محمود، فيرى أنّ هناك قوة كانت سبب الوجود. أما شوبنهاور فكان يُسمّي هذه القوة بالإرادة. وحتى كونفوشيوس كان نبياً عاش في الصين ومنه انطلقت الكونفوشيوسية التي تهتمّ بالعلاقات الإنسانية والسلوكيات الاجتماعية وعلاقات البشر في ما بينهم. ولطالما أيضاً انطلق الكندي من مفاهيم أفلاطون وأرسطو وصاغ كتاباته الفلسفية. ومن الكندي إلى ابن رشد، كانت القضايا والمضامين الفلسفية التي أنتجها فلاسفة اليونان حاضرة في دائرة العقل المسلم.

فعلى الرغم من صياغة الفيلسوف المسلم لقضايا وإشكاليات خاصة به أفرزتها شروط ثقافته ومجتمعه العربيين والإسلاميين، فإنّه أيضاً اشتغل بقضايا فلسفية كما صاغها فلاسفة اليونان واستعاد في الوقت ذاته المحتوى المعرفي الذي تضمّنته الفلسفة اليونانية. فهل كانت الفلسفة الإسلامية اجترارٌ وتكرارٌ لفلسفة اليونان وإعادة إنتاجها لكن باللغة العربية؟ وهل كانت الفلسفة اليونانية مادة التفكير الفلسفي في الإسلام وأصبحت جزءاً منه؟ وهل اختلط النصّ الديني الإسلامي بالموروث الحضاري اليوناني وبدأ بذلك الضياع في العالم الإسلامي، الضياع الفكري والفلسفي؟ وأين أصبح النص بعد تحول النص اليوناني المعقلن إلى نصٍ بديل؟

الفلسفة الإسلامية وتأثير اليونان عليها عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش الأستاذ الفاضل الدكتور خنجر حمية أستاذ الفلسفة الإسلامية في لبنان، والدكتور عبد السلام أحمد راجح الأستاذ في أصول الفقه في سورية، ومن مصر الدكتور صلاح الدين عبد الله الباحث في التراث الإسلامي والدكتور في تاريخ وفلسفة الأديان. مرحباً بكم جميعاً.

دكتور خنجر، مبدئياً الإشكالات التي طرحتها ويطرحها كثيرون في دائرة الإبستمولوجية، المعرفة الإسلامية، هل هي وجيهة؟ وهل لك ما تضيف أو ما تلغيه إن صحّ التعبير؟

 

خنجر حمية: الفلسفة الإسلامية إشكالية تاريخية قديمة، والنقاش حولها لم يهدأ إطلاقاً، مذ بدأ العرب المسلمون يشتغلون بقضايا الفكر اليوناني وبمشكلات موروثة عن الفكر اليوناني، ومذ أخذوا يديرون الكلام حول قضايا فلسفية والنقاش لم يهدأ على الإطلاق في البيئة العربية الإسلامية حول الفلسفة من ناحية مشروعية الاشتغال بها أو عدم مشروعية الاشتغال بها، جدوى النظر الفلسفي وفائدته، إلى أين يقود مثل هذا النمط من أنماط العقل أو الفعل العقلي أو التفكير، ثمّ هل يتلاءم مع الدين ويتنافى، أسئلة جوهرية وأساسية.

 

يحيى أبو زكريا: وقبل ذلك سؤال الأسئلة، متى بدأ التفلسف في الإسلام؟

 

خنجر حمية: الموضوع بات واضحاً جداً بعد دراسات مستوعبة وعميقة وكثيرة، تكاد لا تُحصَر، حول البدايات الأولى لفعل التفلسف الإسلامي. لا نستطيع ببساطة أن نضع يدنا على هذه البدايات إن لم نقرأ السياق المعرفي والفكري الممتدّ من أثينا التي عَرِفت لأول مرة في تاريخ البشرية تفكيراً فلسفياً منظماً، ومروراً بالمدارس اليونانية المتأخّرة، اليونانية الرومانية، وصولاً إلى بدايات الإسلام والمدارس التي عاشت في بيزنطا فترة من الزمن وازدهرت كأنطاكية وحران ونصيبين والرقة والتي ورثت الفكر اليوناني في أُخريات أيامه، إن لم نطّلع على هذا المسار للتفكير الفلسفي الإنساني الذي بدأ مع اليونان وساهم كثيرون من أعراق شتى وديانات شتى في تنميته وفي تطويره، إن لم نرَ هذا المسار لا نستطيع أن نضع يدنا على البدايات.

البدايات الأولى للتفكير الفلسفي الإسلامي هي بدايات الإلتقاء بالتراث الفلسفي اليوناني الذي عرفه المسلمون لأول مرةٍ في تاريخهم في الحواضر التي فتحوها في سورية أو في مصر أو في العراق، والتي ازدهر فيها التفكير الفلسفي في أواخر النشاط العقلي المعرفي لليونان، والذي استمرّ في الأمبراطورية الرومانية ردحاً طويلاً من الزمن. هناك بدأ تفكير المسلمين في مشكلات تنتمي في الحقيقة إلى دائرة التفلسف.

 

يحيى أبو زكريا: أرجو أن تبقى معي، سنعالج كافة النقاط. أمضي إلى القاهرة لاستكمال المحور.

دكتور صلاح الدين، بناءً على ما ذكره الدكتور خنجر، التفطير الفلسفي في الإسلام لم يكُ وليد العقل المسلم، بمعنى أنّ العقل المسلم تلاحق مع أفكار أخرى، احتكّ بالمدرسة اليونانية الإغريقية وأراد أن يجدّد نفس الإشكالات التي كانت مطروحة في العصر الإغريقي، في العصر اليوناني، بمعنى كان يفترض بالفلسفة الإسلامية أن تنطلق من الواقع الإسلامي لبناء نمطية تفكير معيّنة، والذي حدث أنّ العقل المسلم تأثّر بغيره كمن يتأثّر اليوم العقل المسلم بالعولمة والكوكبية وإفرازات المدارس الأخرى. خلاصة أنّ عقلنا اختُرِق وخُرِم في بدايات التفلسف في العالم الإسلامي. ما الذي تقوله في هذا السياق؟

 

صلاح الدين عبد الله: بادئ ذي بدء، هنالك أفكار يطيب لي أن أطرحها في هذا الصدد، ولكن لا بدّ من إرساء خطوط عريضة منها ما يلي. أولا هناك فرقٌ بين الدين من حيث هو منظومة تتضمّن العقائد والقصص والشعائر والشرائع، وبين الحضارة من حيث هي نشاطٌ بشريٌ ضخم ٌمتنوّعٌ تنوع القائمين به. هذه نقطة، والنقطة الثانية أو الخط العريض الثاني الذي أريد أن أُلفت النظر إليه، أنّ الفيرال الواحدة قد تكتسي أثواباً متعددة حين تدخل الحضارات المختلفة. الأمر الثالث او الخط الثالث الذي أريد أن أشير إليه هو أنه لا توجد حضارة تصنعها الطفرة، يستحيل. كلّ حضارة هي نتاجٌ لتراكم الخبرات، فلا بدّ لكل حضارة أن تمرّ بطور من السذاجة، سواء أكانت حضارة المصريين القدماء أم السومريين أم البابليين أم الإغريق أم الرومان أم العرب أم الحضارة الغربية الحديثة.

أقول في ضوء هذا، لا أستطيع أن أقول إنّ العقل الإسلامي لم يعرف التفلسف قبل الإغريق، هذا مستحيل، تأباه سنن الاجتماع كل الإباء. الذي حدث هو أنّ العقل الإسلامي بدأ يناقش الموضوعات اليونانية بعد أن استقرّت له الترجمة بعض الاستقرار لا كلّ الاستقرار. أما قبل ذلك، فقد كنّا نجد أفكاراً، جميع الفرق الإسلامية نشأت في القرن الأول الهجري إذ لم يكن شيءٌ من الفلسفة الإغريقية قد تُرجِم بعد، فمثلاً كان قصارى ما تناهي إليه المسلمون في الترجمة أن أهرن بن أعين أو ماسرجويه ترجم لهم بعض كتب الطبّ في عهد عمر ابن عبد العزيز، وكان يُنسَب إلى خالد ابن يزيد أنّه كان مولعاً بالكيمياء ليستغني بها ويُغني أصحابه. أما الفِرَق من معتزلة وخوارج وشيعة وجبرية ومُرجئة، فكلّها قد نشأت قبل الترجمة قولاً واحداً بإجماع المؤرخين. غاية ما حدث أنّ هذه الفِرَق ربما استعانت بآلياتٍ مترجمةٍ عن الفكر الإغريقي، فطوّرت أداءها، حين انتقلت من طور القلق المعرفي والدفاع الديني إلى طور المهنية. هذا أمرٌ يجب أن يوضَع في الحسبان.

أقول إنّ الثقافة اليونانية حين تُرجِمت أفادت، لكنّها لم تخلق عقلاً فلسفياً، وسأسوق دليلاً على ذلك، من كلام المتكلمين مثلاً أو من أدلتهم شيءٌ يسمونه انتفاء الدليل لانتفاء المدلول، هذا لا وجود له في الفكر اليوناني على الإطلاق. أضف إلى هذا أنّ علم أصول الفقه نفسه لا وجود له في الفكر اليوناني على الإطلاق، لأنه علم مرتبط بالنص المقدّس وبالتالي باللغة العربية، فإن قلت أنّ الفلسفة الإغريقية قد أفادت العقل الإسلامي قلت لك نعم، أما إن قلت أنها وهبته التفلسف من عدم فهذا ما لا أوافق عليه، وبيننا الأدلة التاريخية نسوقها دليلاً دليلاً.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، هذا القدر يكفي لتوطئة الأرضية لبقية البحوث. سأعود إليك بُعيد حين.

دكتور عبد السلام، عندما نتحدث عن الفلسفة الإسلامية يرد إشكال. الإشكال هو أن في الإسلام النص القرآني والنص النبوي الصحيح قد أجاب عن كلّ التساؤلات، والفلسفة بلحاظها الاصطلاحي انها وضع الأشياء في مواضعها والبحث عن الإشكالات. كيف من جهة نبحث عن جواب لإشكالات القرآن أجاب عنها، ولهذا كما يقال تأخّر المسلمون في الذهاب إلى الفلسفة لتوطيد مبانيهم النصية إن صح التعبير؟ ما الذي تقوله في ذلك؟

 

عبد السلام راجح: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا  محمد وعلى أخيه سيّدنا عيسى وعلى أخيهما سيّدنا موسى وعلى أبيهم سيّدنا إبراهيم وأنبياء الله ورسله أجمعين.

أما بعد، فحقيقةً في الجواب عن سؤالكم دكتور، والذي ينصبّ في بؤرة ما تناوله الأخوان الكريمان قبلي لهما منّي التحية، أقول إنّه من ظلم فلسفتنا الإسلامية أن نزعم أنّها نتاجٌ يوناني صرف كما تفضلتم في مقدمتكم، لأننا نتحدث عن قدر إنساني مشترك هو ثمرة عقول أهل الخبرات والفهم والإدراك. ولذلك لا يُتصوَّر أبداً أن نتحدث بشأن فهم النص القرآني والإشكاليات التي تفضّلتم بفهمها أو حيال فهم النص أو حيال فهم الناس وفهم المنظّرين وفهم العلماء لها وكذا السنّة النبوية الصحيحة، أن نحتاج إلى الرجوع إلى نظرياتٍ فلسفية مصدرها يوناني لنتعرّف على واقع القرآن الكريم. فهذا من الإجحاف بمقام حيث أنّ هذا النص القرآني هو نصٌ واضحٌ أعانت على فهمه لغة العرب التي نزل بها، ثم جاءت السنّة النبوية لتؤكد على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم “أوتيتُ القُرآنَ ومثلهُ معهُ”.

وبالتالي، حينما نتحدّث عن هذا الأمر، نحن نعتزّ أنّ الأمّة الإسلامية باعتبار هذا الميراث العظيم الذي هو قدرٌ مشتركٌ بين أبناء الإنسانية جمعاء، استطاع أن يشكّل صورة فلسفية لا ننكر أبداً في إطار تعاون الأمم في أخذ علومها من بعضها البعض، لا ننكر أبداً نحن أمة الإسلام أننا نفتح العيون على كلّ علمٍ نافع نقبس منه ما يثري علومنا وما يوضّح مطلوبنا، ولذلك حينما نقول إننا أخذنا من الفلسفة اليونانية ضمن حركة الترجمة التي بدأت كما أشار الأخ الدكتور صلاح أيام خالد ابن يزيد، حينما كان يترجم في الكيمياء، ثمّ ازدهرت في العصر العبّاسي حقيقة ازدهاراً كبيراً، ونُقِلت عبر هذه المرحلة من مراحل الترجمة علومٌ كثيرة من واقع الفلسفة اليونانية إلى عالمنا الإسلامي واستفاد منها علماؤنا، ولكن أبداً لا يمكن أن نقول أننا أخذناها كاملة هكذا ثم أسقطناها على واقعنا العلمي وواقعنا المعرفي، أبداً، لأننا نملك خصوصية جعلت منّا نستفيد من هذه العلوم في حدود ما يقتضيه واقعنا.

هنا تعرض إشكالية مهمّة حقيقة لا بدّ من البحث فيها وهي أنّ أخذنا من فلسفة الإغريق اليونان، كانت تمثل بالنسبة لنا مرحلة تطورٍ معرفيٍ في الفكر الإنساني، والذي يمثل الفكر الإسلامي جزءًا منه في غمرة هذه المعرفة العامة التي حقيقةً وجّهت العالم بأسره في إطار المعرفة، فكانت هذه المعرفة مقتبَسة من واقع اليونان، ولكن في إطارٍ لم يُخرِجنا عن خصوصيتنا أبداً، وهنا يمكن أن نعلم وكما هو مبسوطٌ في كتب الفلسفة وفي كتب تاريخ الفلاسفة أنّ فلاسفتنا نحوا في هذا الأمر مناحي عدة، فالكندي مثلا تأثر بفلسفة أرسطو وكذا الفارابي، وكما تفضلت دكتور يحيى جاء الغزالي ليقف موقفاً من ذلك ولعل الحلقة تسمح لي أن أتحدث في ما يريده الغزالي من موقفه ومن كتابه تهافت الفلاسفة، ثم ما ظهر من كتاب تهافت التهافت لابن رشد الذي ردّ فيه على كتاب الغزالي.

بالمحصّلة، نحن ضمن هذه الحركة المعرفية العالمية جزءٌ لا يتجزأ منها، أخذنا من الفلسفة اليونانية لكننا أبداً لم نصبغ علومنا ولا ديننا بصبغة هذه الفلسفة، إنما أخذنا منها ما ينسجم مع مفهومنا وبقيت خصوصيتنا قائمة، لم نخرُج عنها ضمن فيرال الوحي وضمن فيرال الذات الإلهية التي سأفرد لها حديثاً إن شاء الله إن سمح الوقت.

 

يحيى أبو زكريا: وسوف نستكمل بقية النقاط لكن بُعيد الفاصل.

مشاهدينا فاصلٌ قصير ثمّ نعود إليكم فإبقوا معنا.

 

 

المحور الثاني

 

يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد. من أدرَكَ حلقتنا الآن، نحن نعالِج إشكالية التأثير اليوناني على الفلسفة الإسلاميّة ومنحنيات العقل المسلم.

دكتور خنجر، أشار الدكتور عبد السلام إلى أنّ المسلمين أنتجوا فلسفتهم، لكن لم يكُ هذا واقع الفلاسفة والفلسفة، العبارة السلفية الشهيرة “من تفلسف فقد تزندق” ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك، هنالك من كفّر تعلّم الفلسفة لِمَا رأى من التأثير الإغريقي على الدين؟ ما الذي تقوله في هذا السياق؟

 

خنجر حمية: نقطتان أرغب في أن اتحدّث عنهما قبل الدخول إلى هذه الإشكالية العميقة في تاريخنا المعرفي والفكري، الصراع الذي استمرّ فترة طويلة بين الفلسفة والدين، بين الفلسفة وبعض مذاهب المسلمين. المشكلة الأولى التي أودّ أن أتحدّث عنها هي أنّ المسلمين عرفوا التفلسف قبل اختلاطهم بالتراث اليوناني، لا يوجد شاهدٌ تاريخي على الإطلاق، وهذا محمد الباهي الذي ألّف في انتقال التراث اليوناني إلى العربية وكان سلفي الانتماء والميل رحمة الله عليه يقول بأن المسلمين لم يعرفوا التفكير الفلسفي المنظّم قبل اختلاطهم بالتراث اليوناني، أنا لا أقول قبل اختلاطهم باليونان، لأنهم لم يختلطوا قط باليونانيين، والحضارة اليونانية متقدمة على الحضارة الإسلامية قروناً، وبالتالي هم اختلطوا بتراث اليونانيين، بالشعوب التي كانت ما زالت تحمل شيئاً من تراث اليونان، لا أقصد تراث أثينا، تراث سقراط وأرسطو وأفلاطون، ثمة تراث يوناني يُحسَب على اليونان لكنه تراث روماني وهو تراث شرقي في حقيقته وفي طبيعته وفي جوهره كالفلسفة اليونانية المتأخرة التي عرفتها الاسكندرية والتي نهض بأعبائها مصريون أو شاميون سوريون أو تلك المدارس التي عرفتها بلادنا ونهض بها نصارى شرقيون كما هي الحال في أنطاكية.

 

يحيى أبو زكريا: وتتهم الفلسفة اليونانية بأنها سرقت من مدرسة الاسكندرية.

 

خنجر حمية: نعم، فهذه مدارس متأخرة في الفكر اليوناني اختلط فيها التفكير الأثيني اليوناني بتفكيرٍ آخر هو مشرقي في طبيعته وفي حقيقته، حينما اختلط المسلمون بهذه الشعوب بعد الفتوحات، وأنا أتحدّث عن القرن الأول، بعد الفتوحات حينما اختلطوا بهذه الشعوب وجدوا عندها تراثاً عقلياً منظماً وفكراً لم يعهدوه من قبل ونمطاً من الكلام والجدل لم يكن يدور بينهم ولم يكونوا يعرفون تقنياته، فحينما خالطوا هذه الشعوب تعرّفوا على هذا التراث من خلالها، وأثّر مثل هذا التراث تأثيراً ولو كان بسيطاً في بداية نشوء علم الكلام الإسلامي في محاور علم الكلام وقضاياه، ليس صحيحاً أنّ علم الكلام الإسلامي إنما هو علم نبع من القرآن من غير أيّ إضافة أو تأثير، وأنه تراث إنما أنتجه المسلمون وفق حاجات داخلية من دون أن يكون هناك مقتضيات ودواعٍ خارجية، علم الكلام أو علم الجدل إنما نشأ بعدما تعرف المسلمون على أشكالٍ من التفكير وعلى قضايا وعلى إشكاليات معرفية لم يكونوا يعرفونها من قبل، حرّكت عندهم أسئلة وهواجس وإشكالات ودفعتهم إلى هذا التفكير الذي بات يُعرف في ما بعد بعلم الكلام.

 

يحيى أبو زكريا: استكمالاً لما تقول، حتى المباني اللفظية للفلسفة الإسلامية يُقال أنّها يونانية، المصطلحات التي استخدمها المتكلمون.

 

خنجر حمية: الجوهر والعرب والمتحرك والسكان.

 

يحيى أبو زكريا: وماهية الوجود، أحسنت، هل هي بالفعل يونانية؟

 

خنجر حمية: طبعاً يونانية، تمّ تعريب مضامينها بمفرداتٍ تطوّرت مع الزمن واكتسبت هذه الصيغة بالعربية التي أصبحت تُعرَف بالمصطلحات الفلسفية التي دخلت إلى علم الكلام، وأكبر دليل على ذلك أنّ تطور علم الكلام في ما بعد لم يكن يتأتى له أن يبلغ ما بلغه لولا توسله بآليات التفكير المنظم اليوناني. هذه مسألة.

المسألة الأخرى التي أضافها الأخ من سورية، ليس مطلوباً الآن الحديث عن معايير، هل يحسن، كان من المسلمين أن ينظروا في قرآنهم من خلال أدوات التفكير الفلسفي اليوناني أو لا يحسن؟ هذا شيءٌ تخطاه الزمن، وبتصوّري الحديث في المعايير لا ينفع الآن. نحن نتحدث عن واقع. المسلمون فكّروا في الإسلام في مرحلة من الزمن عبر أدوات تفكير موروثة، مستجلَبة، غريبة إذا صحّ التعبير، أجنبية. ورثوا تراثاً منظّماً استفادوا منه وانتفعوا في فهمهم للإسلام وفي تفكيرهم فيه وفي قراءتهم لهم خصوصاً ما يتعلق بالميتافيزيقيا، بالإلهيات، بقضايا الوجود والمعرفة والأخلاق والنظر العقلي والألوهة والنبوة ومقتضياتها والسياسة، مثل هذه المشكلات لم يكن يتأتّى للمسلمين أن يفكروا فيها بالطريقة التي فكّروا فيها لولا هذه الأدوات.

 

يحيى أبو زكريا: هنا يرد عليك إشكال دكتور خنجر. هل عجز المسلمون عن استنباط أدوات التحليل الابستمولوجي المعرفي من القرآن الكريم؟ هل كان في القرآن قصور معاذ الله، طبعاً أنا أطرح الإشكال كما يُطرَح، قصور في إنتاج هذه الأدوات التحليلية؟ لماذا أنا أستعين بمبنى عقلي لآخر غير مسلم، غير رباني دعنا نقول، ونُسقطه على تفكير رباني، على نص رباني؟ ألا يؤدي هذا إلى الضياع إلى حد ما؟

 

خنجر حمية: لا، المشكلة إنسانية أكثر ممّا هي دينية. البشر على الدوام في تعاطيهم مع النصوص الكبرى، دينية كانت أو أسطورية أو معرفية أو أدبية، إنما يطورون أدوات الفهم الخاصة بهم بالاستعانة بما ينتجه العقل الإنساني من معارف. هذا شيءٌ ليس عيباً على الإطلاق، ولا يمكن أن يُتّهَم أحد بأنه إنما يحاول أن يشوّه الدين بتوسل أدوات فهم لا تنتمي إلى دائرة سياق حضاري محدّد. العقل الإنساني عقل يتواصل، وينتفع بعضه من بعض، ويستفيد بعضه من بعض. ما أخذه المسلمون عن اليونان استفادوا منه واستعانوا به وأثرى عندهم قدرات الوعي والفكر والفهم، وطوّر نظرهم إلى الدين وإلى القرآن. ليس صحيحاً أنّ ذلك مُضِر.

 

يحيى أبو زكريا: لكنه شتّتهم في النهاية، فوُجِد فريقان، فريق مع الفلسفة.

 

خنجر حمية: هذه عوامل متعددة، ليس الموضوع موضوع الاستفادة من اليونانيين، هناك موضوعات أخرى ساهمت في تشتيت العقل المسلم وفي دفعه نحو الانحدار وفي تفكيكه في ما بعد وفي بلوغنا مرحلة من مراحل الخواء الفكري والمعرفي في القرن السابع. الإشكال الأكبر أنّ تقليد الهجوم على الفلسفة بدأ مع الغزالي. الغزالي بنزعةٍ سلفية معروفة كان يفترض أنّ الفلسفة اليونانية إنما تتنافى في جوهر ما تدلّ عليه وتعنيه مع حقائق الإيمان، مع حقائق الإسلام، وأخذ لذلك نموذجاً أراد أن يناقشه وأن يُبيّن صحة وجهة نظره من خلال ابن سينا، وكلنا يعلم أن لا الغزالي، وكل الدارسين المعاصرين يعلمون أن لا الغزالي ولا ابن سينا كان يعرف حقيقة المشكلات، منابع المشكلات التي اشتغل بها وعالجها. ابن سينا كان يفترض حينما اشتغل بهذه المشكلات الكبرى في سياق تفكيره، كان يفترض أنّه إنما ينهل من أرسطو وأن أرسطو مفكر رفيع الشأن عالي المقام، وأنه بلغ الذروة في تنظيم المعرفة وفي دقّتها، افترض أنه إنما يستفيد من هذا الفيلسوف الذي ترك بصماته قروناً متعدّدة في اليونان وفي الإسلام، والغزالي كان يفترض أنّ ابن سينا حينما نظّم فلسفته وعرضها إنما كان يعرض آراء أرسطو.

ليس الموضوع كذلك، والتراث الفلسفي العربي المسلم منذ الكندي حتى الفارابي حتى ابن سينا امتداداً حتى الطوسي، وفي الجانب الآخر حتى ابن رشد، التراث الفلسفي هذا العربي الإسلامي هو خليط هجين لا يكاد يتبدّى وجه التفاوتات التي توجد بين عناصره، خليط من فكر أرسطو وأفلاطون وسقراط والفيتاغوريين والرواقيين والمدارس الاسكندرية المتأخرة وشيء من تأثيرات اللاهوت المسيحي الذي ركّز نظامه المعرفي والفكري في العصور المتأخرة للمدرسة اليونانية على الاسكندرية، على أفكار الاسكندرية، أفلوطين على وجه الدقة. هناك مؤثرات لا حدود لها في عقلنا الإسلامي، قيمة ما أنتجه المسلمون أنّه أعاد تنظيم هذا الفكر، وحينما وجد أنّ ثمة تفاوتات بين ما يُنسَب إلى أفلاطون تارة وإلى أرسطو تارة أخرى حاولوا أن يوفّقوا بين هذه الآراء وبين هذه المذاهب، وبالتالي كمٌ هائلٌ من الأفكار المعرفية والفلسفية دخل عالم الإسلام منذ القرن الثاني.

 

يحيى أبو زكريا: نعم، دكتور خنجر، ولعلّ من أجل ذلك بعض المستشرقين الذين كتبوا عن ابن سينا وابن رشد والكندي يقولون شكراً للمسلمين، أعادوا إنتاج الفلسفة اليونانية وصدّروها لنا، بمعنى أنّهم أعطوها منهجية معينة، برمجوها، وضعوا لها فهرست وأعادوها إلينا، وكأنّ المسلمين فسّروا الماء بالماء بعد جهدٍ وعناء.

دكتور صلاح الدين، بهذا اللحاظ، العقل المسلم كان مصاباً بداءين، بناء على المبنى الذي طرحه أخي الأستاذ الدكتور خنجر. كانوا مصابين بداء الهجنة اليونانية، وأنت تعلم أنّ الفارابي كان يعتبر أرسطو وأفلاطون من الأنبياء وكان يسميهما بالمعلمين الكبار، وأصيبا بداء الجمود على النص، السلفية المتراكمة التي ملأت الفكر الإسلامي بالحشو، أيّ رواية تأتي من الإسرائيليين مقبولة، أيّ رواية تأتي من بيزنطة مقبولة، فصارت الأحاديث النبوية من الكثرة بمكان كما لو أن رسول الله عاش 500 سنة وكان يتكلم 24 ساعة في اليوم. فبين الحشو والوضع في الحديث وبين الوضع اليوناني واللمسات اليونانية في العقل المسلم، كيف كان يتبدّى العقل الإسلامي آنذاك؟ وهل هذا ما يُعتبَر إن صحّ التعبير طريق الخلل في العقلانية الإسلامية اليوم؟

 

صلاح الدين عبد الله: أنا لا أقبل هذا القول لا جملة ولا تفصيلا. أنا أشرت إلى أنّ الفِرق كانت قد نشأت قبل المعرفة بالثقافة اليونانية، وأشير ها هنا إلى شيئين أعتقد أنّهما يؤكدان رأيي، أحدهما قول الجاحظ كل رأيٍ للروم إنما هو عن روية وكلّ رأيٍ للعرب إنما هو عن بديهة. أقصد أو يقصد الجاحظ أنّ الروم تقدّم المقدّمات وتستنتج النتائج، وأنّ العربيّ لا حاجة به إلى هذا، لأنّه قادرٌ على تلخيص الفيرال ووضعها في سياقها الذي يتناسب مع طبيعته العقلية.

أما في ما يخصّ علم الكلام الذي نشأ بالفعل قبل الترجمة، فمثلاً دعني أشير إلى مناظرة ابن عباس مع نافع ابن الأزرق، دعني أشير إلى المناظرات بين القدريين والجبريين في العصر الأموي الأول، دعني أشير إلى حديث حاطب بن ابي بلتعه مع المقوقس. هذه أمورٌ كثيرة تدلّ على طبيعةٍ خاصة في العقلية الإسلامية. غاية ما هناك والذي قلته من قبل أنّ المتكلّمين إذ استعانوا بأدوات الفلاسفة في أوقاتٍ متأخّرة إنما استعانوا بها ليصقلوا بها المهنية، مهنيّتهم، وهكذا كل علم حين ينتقل من الأفراد إلى المدارس يحتاج إلى قدرٍ من المهنية، إلى قدر من الصناعية. هذا هو ما أفاده المتكلمون من كتب الفلاسفة، ولكن مثلاً ستجد أبا علي الجبائي وأبا هاشم ابنه يتكلمان عن شيءٍ اسمه الحال بين الوجود والعدم، مناقضين تماماً لما يقوله أرسطو أنه لا واسطة، سوف تجد أبا النضر نفيسا ينتقد أرسطو نقداً شديداً، بل إنّ أبا العباس الناشئ قبل الغزالي بحوالى قرن صنّف كتباً في الرد على الفلاسفة، معنى هذا، ولنلاحظ نقطة أخرى أود الإشارة إليها، مهلاً سيدي، مهلاً لو سمحت حتى أستكمل فكرتي.

أنت حين تتكلم عن الفلسفة تذكر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، فما بال المدارس الأخرى؟ ما بال مدرسة أبي سليمان السجستاني؟ ما بال البغدادي أبي البركات؟ وكثير من المدارس المختلفة الفلسفية.

 

خنجر حمية: مشائية.

 

صلاح الدين عبد الله: ليست بمشائية، ليست بمشائية، إنما لها، جمعت بين تراث شرقي وأفلاطونية حديثة، وفي تفكيرها بعض الأصالة لا نستطيع أن ننكر ذلك، مثلا تعاليق أبي سليمان السجستاني على كلام أفلاطون جدير بالتأمل، وأنا أُحيل ها هنا إلى كتاب المقابسات الذي وضعه ابن حيّان في القرن الرابع فليس الغزالي.

 

خنجر حمية: دكتور، أنت تتحدث عن القرن الرابع، هذه المدرسة الإنسية، السجستاني وابو البركات البغدادي في القرن الرابع.

 

صلاح الدين عبد الله: مثال، مجرّد مثال.

 

خنجر حمية: وكانت الفلسفة بلغت أوجها في عالم الإسلام، وصاحب المعتبر أبو البركات البغدادي تأثّر بابن سينا ومتأخّر عنه.

 

صلاح الدين عبد الله: مهلاً يا سيدي، أنا أعرف هذا، أنا أشير إلى اتجاهات ومدارس فلسفية سوى المدرسة المشائية، أما علم الكلام إلى منتهى القرن الأول الهجري، فقد كان إسلامياً صرفاً، لا تستطيع أن تجد في مناقشاته كلاماً عن الاسطقس أو الأيسيات او الليسيات أو الصورة أو الهيولة أو ما يجري مجراها، هو كلامٌ عربي بلغة عربية بطريقة الاستدلال العربية التي عرفها المسلمون الأوائل. أضف إلى هذا أنّ القرآن الكريم فيه من الموضوعات الوجودية والمعرفية ما يَهِب المسلمين أصحاب العقول الراقية قدرة على أن يستنبطوا ذلك.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، في هذا السياق، واحدة من الإشكالات الكبيرة في تاريخ العقلانية الإسلامية والتفكير الإسلامي أنّ المسلمين تركوا القرآن كمنطلَق لصناعة النهضة والرؤية العقدية والكونية والحياتية وذهبوا.

 

صلاح الدين عبد الله: ليس صحيحاً.

 

يحيى أبو زكريا: أقول لك كيف.

 

صلاح الدين عبد الله: لا، لا، لا.

 

يحيى أبو زكريا: إذا سمحت، لم أكمل فكرتي بعد. دكتور صلاح، كلّ ملة، كلّ نحلة، كلّ طائفة أخذت من القرآن ما يقوّي موقفها، تركوا القرآن جانباً وذهبوا إلى النص اليوناني، وإلا ابن رشد عندما قال أنّ الأجساد لا تُحشَر إنما الأرواح هي التي تحشر فقط، من أين جاء بهذا؟ أليس من الفكر الأرسطي القديم؟

 

صلاح الدين عبد الله: لا، لا، لا، أرجو أن تفرّق بين ابن رشد كقاضٍ مسلم وبين ابن رشد كشارح لأرسطو، حين تتكلم عن إنكار المعاد، أرجو أن تعطيني الفرصة لأستتمّ فقط هذه الفيرال لو سمحت، ابن رشد حين كان يشرح كتب أرسطو كان يستشهد بآراء الفلاسفة الذين يرون إنكار المعاد.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح الدين، سنستكمل كل الأفكار وصولا إلى الغزالي مع الدكتور عبد السلام.

صاحب إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي الطوسي لأنه من طوس، يبدو أنّ إغراقه في النصّ القرآني، في النصّ الحديثي، في تربيته الأخلاقية جعلته يتخذ موقفاً من الفلاسفة. لماذا بنظرك نحا هذا المنحى وهو إيراني والإيرانيون معروفون بالعقل البارد؟ المدارس الفلسفية العالمية، العقل الإيراني والألماني واليوناني، العرب أنتجوا الشعر للأسف الشديد. لماذا نحا هذا المنحى في نظرك؟

 

عبد السلام راجح: حقيقة هي ملاحظات سريعة أتعرّض لها لأجل تمام المعنى، الذي نخدم به السادة المشاهدين. حينما يتحدث الأستاذ الدكتور خنجر عن حديثي في المعايير، فأنا أؤكّد أنّنا كأمّة إسلامية نملك خصوصية، أبدًا لم يكن في طبيعة تفكيرنا أن ننكر الإفادة من الآخر لأننا أبناء القول والأثر الذي يقول الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى بها. وبالتالي أنا لا أنكر أنّ ثمّة تعاوناً، أنّ ثمة إفادة من ذلك الرصيد الهائل من الفلسفة اليونانية التي نعلم أنّها نتاج معرفي عالمي جدير بالاهتمام وبالعناية، ولا مانع أبداً من أن نقتبس منه ضمن فيرال الخصوصية التي تُميزنا.

لكنني أستغرب حينما يتحدث عن الأخلاق والنظر العقلي والنبوءة، ثمّ أردفتم سيادتكم في موضوع أدوات التحليل، ونحن حقيقة لسنا خلواً من هذه الاصطلاحات في منظومتنا المعرفية المستقلة عن أيّ مؤثرٍ خارجي، مع أنني وأنا أخاطب الآن المشاهدين، يروننا في القرن الواحد والعشرين، ونحن في حال من التواصل على كلّ المستويات، وأشرت جنابك إلى موضوع العولمة وموضوع الكوكبة، فنحن لا ننكر أبداً أن يكون العالم متعاوناً ومستفيداً من بعضه البعض خاصة في ظل هذه الحال المعرفية التي جاء الإسلام ليعلن أننا لا نغلق قلوبنا فضلاً عن عقولنا عن أيّ معرفةٍ يمكن أن تُسهِم في ثراء هذه العلوم والمعارف.

نحن حينما نتحدث أنّ الشريعة تَصلُح لكل زمان ومكان وتُصلِح كل زمان ومكان باعتبار ذلك البعد الذي نعتقده في أنّ هذه الشريعة هي إلهية المصدر، وهذا الإله الذي هو فوق كل شيء ويعلم كل شيء في ما نعتقده نحن أبناء الملّة فإننا لا نجد غضاضة أبداً من أن نمدّ العين إلى أي فكر إنساني، هو وضعيٌ، نعم، وأنا في موضوع الوثن، أنا أقف في قضية الوثنية حيال تلك الأفكار التي أخذت طابعاً وثنياً، لأقول هذه أنا لست معنياً بإضافة حالات تترجمها لتصبح موائمة لديني ولعقيدتي لأنني مستقل بهذا الأمر استقلالاً تاماً، ولكن هل كل ما جاء به الفلاسفة.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، عفواً أدركني فاصل، ستعود إلى حديثك بُعيد الفاصل مباشرة، أعدك بذلك.

مشاهدينا فاصلٌ ثم نعود إليكم، فلا تقطعوا أفكاركم بفلسفة المسلمين والإغريق.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

صدق الله العظيم

 

 

المحور الثالث

 

يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد.

دكتور عبد السلام، كنت تتحدث، وليس من الفلسفة قطع الأفكار، فعذراً، ضرورات الفواصل. هلا أكملت فكرتك رجاءً؟

 

عبد السلام راجح: بكلّ سرور، بارك الله بكم. أنا أقول باختصار شديد، الفلاسفة المسلمون استطاعوا أن يضيفوا إضافات جديدة إلى التراث الفلسفي الإنساني، وهذا لا ينكر أنّ الأصل في هذه الحال الفلسفية إنما وفدت إلينا من اليونان باعتبار أنّها أمّ هذا الفنّ وهذا العلم، لكنهم حينما أضافوا إلى التراث الإنساني إضافات جديدة جعلوا في هذه الإضافات محلاً للجانب الديني في الفكر الفلسفي، ما أضفى هذه الحال الوجدانية والتي فعلاً أستغرب حينما أقرأ في فكر أرسطو، ولعل الأساتذة المتخصصين يؤكدون هذا أو يدعمونه أو ينفونه لإيغالهم في التخصص أكثر منّي، أنّي أجد في فكر أرسطو انه بعد إيغاله في دراسته للفلسفة وبعد وضعه لهذه النظريات التي اقتبس منها العالم أجمع، وصل في نهاية كلامه إلى حال أطلق عليها الجذب، أطلق عليها الوجدان، أطلق عليها الحال التي يمكن أن نطلق عليها الإيمان بمفاعيله، وأقول ذلك في كثيرٍ من أولئك الفلاسفة الكبار الذين لم يترددوا في أن يصلوا إلى حال عُرفت بالنرفانا بمصطلح الكونفوشيوسية أو بمصطلح البوذية، هذه الحال الإيمانية هي التي أريد أن أعوّل عليها.

لكنني أريد أن أكمل الفقرة الأخيرة التي كنت قد انتهيت إليها. نحن حينما نتحدث عن أنّ الشريعة الإسلامية باعتبار إلهية مصدرها تصلح لكل زمان ومكان وتُصلِح كل زمان ومكان، هذا لا يعني أبداً أنني أغلق عيني عن فكر يمكن أن أستفيد منه ضمن حال إنسانية عامة تنسجم مع مصطلحي الإيماني الذي عنوانه التوحيد، الذي عنوانه الوحي، الذي هو معصومٌ من أن يخرج عن نمط المصداقية الواقعية الأكيدة، لأنّه إلهي المصدر كما أسلفت. فأنا أقول لا مانع البتة في مصطلحنا الإسلامي، ونحن الآن نريد أن نقول للعالم في هذه الفترة المتقدمة من الزمان والعصر، والتي أضحى العالم قرية واحدة كونية، يتعاون في التكنولوجيا، يتعاون في الأفكار، نستورد أفكار الآخرين لنستفيد منها في بيئاتنا العربية والإسلامية الدقيقة. الآن مصحفنا موجود على الجوال، هل يمكن أن ننكر وجود هذا المصحف على الجوال لأن الجوال هو نشأة غير إسلامية؟ بالعكس أنا لا بدّ من أن أفتح قلبي على كل العالم لأجل أن يتعانق العالم في حال من الخدمة المعرفية الثقافية التي تجعله في صعيد واحد. أما حالات الخصوصية فهذه تبقى في إطارها ولا يمكن أن يعترض عليها أحد لأنها تمثل خصوصية كل أمة وكل شعب وكل أصحاب دين.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، لا شكّ أنّ نتاجات العقل البشري هي ملك للإنسانية، والإنسان يجب أن يستفيد من الإنسان، وأيّ إفراز عقلي لأي مدرسة عقلية إنسانية، وخصوصاً إذا كانت تصب في مصلحة الإنسان العامة، فهذا الفكر بشكل عام هو مقبول من الجميع، وبهذا ننادي تلاقح الأفكار وتلاقي الأفكار.

دكتور خنجر، دعوى أنّ العقل المسلم كان ضعيفاً عن التفلسف، وبالتالي الإستعانة بالآخر اليوناني أو الإغريقي، هل هي صحيحة؟ هل بالفعل العقل المسلم ضعيف؟ أين تموقع العقل المسلم؟ هل بالفعل أنت، وكان نتاج هذا الموت ظهور السلفية وظهور التكفير والإقصاء وقتل الآخر؟

 

خنجر حمية: أنا أعتقد بأنه لا يوجد عقل قاصر عن أن يُنتِج مظهراً منظّماً في الوجود، حتى في شعوبٍ يبدو من دراسة بنيتها أنّها شعوب بدائية، منذ 7000 عام أو يزيد والبشر يفكرون في العالم من حولهم، ويضعون تصوّرات لإجابات لأسئلة وجودية تتصل بحياتهم وبوجودهم.

 

يحيى أبو زكريا: وهو يملك هذه القدرة ذاتياً.

 

خنجر حمية: طبعاً المسلمون شأنهم شأن غيرهم يملكون القدرة على أن يفكّروا تفكيراً منظّماً في الوجود من حولهم، ويستطيعون بقدراتهم الذاتية أن يضعوا إجابات لاسئلة، لكن لا يستطيع إنسانٌ على الإطلاق أن يضع إجابة لسؤالٍ غير موجود. الإجابة إنما تتولّد عندي أو أندفع محاولاً بناءها عندما ينشأ عندي سؤال تولّده حركة اجتماعي، تولده تعقيدات حياتي، المشكلات الحضارية التي تعصف بي، في الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد. الفكر وليد التجربة.

 

يحيى أبو زكريا: والبيئة كما يقول فرويد.

 

خنجر حمية: طبعاً لكن لم يكن العرب في بداياتهم يعيشون مثل هذه المآزق الكبرى ليضعوا إجابات على أسئلة لم تكن موجودة عندهم. حينما أصبحت هذه الأسئلة موجودة اندفع المسلمون للإجابة عليها.

 

يحيى أبو زكريا: لكن دكتور خنجر، قلت أنّ العقل المسلم قادر، يملك ديناميكية شأنه شأن العقل البشري، وبالتأكيد هو عقل بشري. لكن كيف تفسّر كبريات التصدعات، الإنهيارات، الانكسارات؟ لا في الميتافيزيقا أفلحنا لا في الوجود أفلحنا، لا في كل التفاصيل، عندما تتحدّث عن تقدّم ما في اليابان، في كوريا الجنوبية، أو الشمالية، تربط هذا التقدم بعقل مخطّط، منظّم، صح؟ لماذا في العالم العربي والإسلامي لا يوجد ما نراه من رفاهية، من تقدّم؟

 

خنجر حمية: المسألة ليست مسألة فلسفة على وجه الدقة. المسلمون في القرن الرابع أنتجوا تراثاً يكاد يساوي أضعاف ما بلغهم، أضعفاً مضاعفة ما بلغهم من العقل اليوناني من تراث، ومثل هذا التراث انتقل إلى الغرب في ما نعرفه نحن بالقرون الوسطى، واستفاد منه الغربيون حتى نشأت مدارس كبرى في التفكير الإنساني في القرون الوسطى تُنسَب إلى المشرقيين، الرشدية الأوروبية، تلامذة ابن سينا اللاتين، الفلسفة المسيحية برمتها إنما استعانت بالتفكير الإسلامي في محاولة بناء لاهوتها. دعنا نكون منصفين مع المسلمين، العقل المسلم حتى القرن الرابع، القرن الثالث والرابع ومنتصف الخامس كان عقلاً مبدعاً في جميع ميادين المعرفة.

 

يحيى أبو زكريا: تعطيني مصاديق لهذا الإبداع مثلاً؟

 

خنجر حمية: نعم في الفلسفة أكبر تراث فلسفي نشأ حول الفلسفة اليونانية الموروثة هو التراث العربي الإسلامي. في الفلك أنتج المسلمون ما بقي الغرب يستفيد منه حتى القرن الثامن عشر، عند البيروني مثلاً، عند الطوسي وجهوده في مرصد مراغة ومؤلفاته الفلكية. في الطب، وكلنا يعرف الأطباء المسلمون الكبار. الموضوع لم يكن موضوع فلسفة وفكر نظري وميتافيزيقا ولاهوت، في الميدان المعرفي أنتج المسلمون سلسلة هائلة من المعارف والأفكار بقي الغرب يفيد منها حتى القرن الثامن عشر.

المشكلة ليست مشكلة معرفة وإنتاج معرفي. المشكلة مشكلة حضارية، مشكلة مأزق، سلطة وبشر.

 

يحيى أبو زكريا: جيّد. قلت أن هنالك إنجازاً وهنالك إنتاج، وهذا محل توافق بين المفكرين العرب والغربيين. متى بدأ اغتيال العقل العربي والمسلم؟ متى بدأ التصدّع في العقل الإسلامي؟ هل من مرحلة ما؟ هل من أسماء ما؟ حتى نعرف كيف بدأ هذا الاختلال في التوازن بيننا وبين الغرب.

 

خنجر حمية: أنا أفترض أنّ المشكلة بالأساس مشكلة سياسية.

 

يحيى أبو زكريا: في العالم الإسلامي.

 

خنجر حمية: نعم، مشكلة العالم الإسلامي هي مشكلة الاستبداد السياسي وانعدام الحريات، ومشكلة مأزق سياسي وليس مأزقاً معرفياً، سياسي اجتماعي وليس مأزقاً معرفياً. لم يستطع المسلمون الانتقال بتفكيرهم السياسي من فيرال السلطان الذي يحكم باسم الله والتي تم التنظير لها في العصور الأموية الأولى وترسّخت بفعل جهدٍ معرفي. لم يستطع المسلمون أن يخرجوا من فيرال السلطان هذه حتى القرن السابع، وفي القرن السابع كانت تشظيات الاجتماع البشري الإسلامي هائلة ممّا سمح للاجتياح المغولي أن يدمّر كل مقومات الحضارة العربية الإسلامية في فترة زمنية وجيزة.

المشكل ليس مشكلاً معرفياً، إنما هو مشكل سياسي سياسي اجتماعي، وهذا المشكل السياسي الاجتماعي أنا أربطه على وجه الدقة برؤية دينية سلفية تم ترسيخها في الأساس لمنح مشروعية للسلطان على كل حال، هذا الذي لم يكن بأيّة حال من الأحوال يمكن مساءلته، لا من قِبَل سلطةٍ دينية ولا من قِبَل جماهير. وبالتالي ينبغي الفصل، أنا باعتقادي، بين المناخ الحضاري الذي انحدر بسرعةٍ هائلة بعد القرن السابع نتيجة مشكل سياسي وبين المعرفة التي بقيت تُنتَج في العالم الإسلامي حتى فترات متأخّرة. بالرغم من كل الانهيارات السياسية والخواء الحضاري والتشرذم الذي عانى منه الاجتماع العربي الإسلامي بهذه الفترات، بقيت الفلسفة تنتج أرقى تصوّراتها وأفكارها حتى القرن العاشر، مع الملا صبرا الشيرازي مثلاً.

 

يحيى أبو زكريا: وهذا ما ذهب إليه في موضوع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” عندما أشار إلى أن السلطان الحاكم قد جنى على أمّتنا بالكامل، وأشار إلى تحالف السلفية المقيتة والحاكمية الظالمة.

دكتور صلاح الدين عبد الله، لعلّنا بحمد الله توافقنا على أنّ العقل الإسلامي أنتج فكراً، أنتج معرفة، وهذا العقل بات علامة فارقة في الغرب. الغربيون عندما يتحدثون عن ابن سينا أو أفي سينا كما يسمّونه بكثير من التعظيم والإجلال، بل إنّ بعضهم يتساءل، أين المسلمين، كيف تأخروا وهم يملكون ابن سينا وابن رشد.

نفس السؤال الذي يهمني في حلقتي هذه والعالم الإسلامي اليوم يزداد انكساراً وانحداراً وتقاتلاً والمسلم يقتل المسلم، كيف تسلّل العطب إلى العقل المسلم، إلى البُنية المعرفية الإسلامية، إلى الفلسفة الإسلامية؟ متى بدأ الانحدار، السقوط، الانهيار، الانكسار والتدني والانبطاح؟

 

صلاح الدين عبد الله: أولاً قبل أن أُجيب عن هذا السؤال دعني أطرح أنا سؤالاً آخر يؤكد أنّ للمسلمين أو للعرب المسلمين أو للمسلمين بصفة عامة شخصيتهم المعرفية التي ميّزتهم، حتى وهم يترجمون أو حين يُترجم لهم. مثلاً لماذا لم تُترجم إلياذة هوميروس وأوديسته، وأشعار فيرجن وهوراس وأوفيد وشرائع سولون وحكم شيشرؤول وخطب شيشرون وصور فدياس وموسيقى ارستوكسيم؟ كل هذا لم يُترجم إلى الحضارة العربية، كل هذا لم يكن لهم به من علم، كذلك مسرح سيفوكليس ويروبيدس واسخيلوس وارستوفان لا علم للعرب به.

الذي حدث هو أنّ كلمة فلسفة كانت عند العرب كما كانت عند الذين من قبلهم تشمل الطبّ والفلك والهندسة والرياضيات وما جرى مجراه. فحين احتاج المسلمون إلى هذه العلوم العملية والنظرية، اضطروا إلى ترجمتها جميعاً في حقيبةٍ واحدة، فمثلاً يُقال هذا متفلسف فلكي وهذا هندسي وهذا صاحب علمٍ بالنجوم وهذا صاحب زجر، حتى الزجر أدخلوه في الفلسفة، ولهذا أسبابه التي لا يتسع لها الوقت الآن.

نعود إلى سؤالك، لماذا؟ لأنّ، ببساطةٍ شديدة، لأنّ كلّ حاكم لا ينظر إلا إلى تحت قدمَيه وعلى كرسيّه فقط، لأننا قد رزحنا قروناً طويلة جداً تحت طغيانٍ لا مثيل له حتى فقد الناس الثقة باليوم والغد وفقدوا الثقة بكلّ ما له قيمة، حتى أصبحت العلاقة لا تنظّمها شريعة ولا يقودها قانون، وإنما يقتصّ بعضُنا من بعضٍ متى استطاع إلى ذلك سبيلاً. هذه اللا مبالاة أو هذه العدوانية خلقها الإحساس باليأس لدى الأمم الإسلامية قديمها وحديثها، للأسف الشديد تحوّلت الخلافة إلى إمبراطورية، وحين صارت إمبراطورية اتّسعت، وحين اتسعت تمزّقت، وحين تمزّقت أصبح لها حكّام عديدون، وحين أصبح لها حكام عديدون أصبحوا يقتتلون في ما بينهم. ألم ترَ إلى الأندلس بعد أن لبث فيها العرب ثمانية قرون متصلات كيف ازيلوا عنها كأن حضارتهم لم تغنَ بالأمس وما ذلك إلا لأطماعهم بعد ان جاؤوا ابن طفيل وابن مسرة وابن باجا وابن رشد وابن هانئ الأندلسي بعد أن كانت للحضارة قدمان طويلتان في الأندلس، إنقرضت حضارة العرب من الأندلس كأنها لم تغنَ بالأمس وما ذاك إلا لأطماع الطامعين، وكما قيل لآخر ملك ابكِ كالنساء على مُلكٍ لم تحافظ عليه كالرجال.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور صلاح، أذكّر أنّ هذه المقولة الشهيرة لأم عبد الله عندما كان يغادر الأندلُس وأخذ يبكي، فقالت له ابكِ كالنساء مُلكاً عضوداً لم تحافظ عليه كالرجال.

دكتور صلاح الدين، هنا يرد إشكال يورَد عليك إن صحّ التعبير. أشرت إلى أنّ المسلمين احترموا العقل، احترموا الفلسفة، وكانوا مع التفكير ومع التفلسف. لكن كيف تفسّر إعدام المسلمين أو العالم الإسلامي أو حتى الحاكم الطاغية للسهروردي، لمحنة ابن رشد في الأندلس عندما أحرِقت كتبه، وكانت سعاد الأندلسية أفضل من كل مفكري العالم الإسلامي آنذاك؟ كيف تفسّر اغتيال الحلاّج وقتله، ابن المقفع؟ أمة تحترم التفكير وتجل التكفير، أمّة تحترم وتدعي.

 

صلاح الدين عبد الله: مهلاً، كيف تحترم أنت إعدام سقراط في أثينا في عزّ أوجّ الحضارة الإغريقية؟ كيف تفسّر إحراق كتب بروتاغوراس لا لشيءٍ إلا لأنه قال أنا لا أعرف إن كان الآلهة موجودين او غير موجودين؟ أحرِقت كتبه. كيف تفسّر مطاردة الإغريق في عصر النهضة لبيركليز وحبيبته ازبازيا وفيلسوف اللامتناهي أناكسا غوراس؟ هذه أمورٌ حين يحاول الحُكّام أن يسترضوا بها العامة أو يدخلوا فيها العامة فإنها لا بدّ أن تفسد، لا بدّ أن تفسد. الذي حدث مثلاً أنّ أخناتون حكم مصر 19 عاماً وكان قد ندّد بديانة أوزوريز فلمّا مات، كلّ ما كان باسم أتون تحوّل إلى اسم آمون وعادت الأمور أدراجها مثلما كانت من قبل، وقُل مثل هذا في السومريين والبابليين واليونان والفرس والرومان. ما من أُمة خلت من هذا، بل قُل مثل هذا في الحضارة الغربية الحديثة، هذا أيضاً موجود، هذا أيضاً موجود. ما من حضارة إنسانية إلا وفيها هذا اللون.

 

يحيى أبو زكريا: كونه موجوداً ليس دلالة على صحته، إنّه يشكل قمة الانهيار عندما يُعدَم المفكر وعندما يُقتَل التنويري، فتلك وصمة عار في جبين أي أمة.

دكتور عبد السلام راجح، اليوم للأسف الشديد مع الانفتاح على وسائط الاتصال، مع التأثر العربي بالإفرازات الغربية القادمة من الغرب، لا نكاد نجد نتاجاً فلسفياً إسلامياً.

 

عبد السلام راجح: حقيقة لأجل تكامل الحلقة كنت قد سألتني قبل قليل عن الغزالي رحمه الله، وأخذَنا الحديث، وأضفتم إضافات مهمة، فلأجل السادة المشاهدين أختصر بكلمتين وأنت تسأل عن هذا الغزالي من طوس كيف نحا هذا المنحى. الحقيقة هو رجل ربي على يد إمام الحرمين الجويني وهو أشعري، وبالتالي نحا منحى الأشاعرة وهو صوفي، وكتابه إحياء علوم الدين يؤكّد على هذا المعنى.وبالتالي يمكن أن نعلّل هذا الذي نحاه في محاربته لقضية الفلسفة باعتبار نشأته الصوفية الأشعرية، وباعتبار انتقاده لقضايا راسخة في الفكر اليوناني، خاصة في ما يتعلق بأنّ الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلى غير ذلك من الاعتبارات التي جعلته في هذا السياق، ولعلّ هذا يُغني في سؤالكم حول جزئية الغزالي.

أما في ما يتعلق بسؤالكم الثاني، وهو حقيقة فيه جزء من الواقع، والجزء الثاني أقول، نعم، في الإطار الفلسفي، أنا أزعم أنّ المؤلفات نزلت إلى الحد الأدنى، لا أقول عقمت فأنا حقيقة أمام مؤلفات راسخة، هناك ندرة في المؤلفات الفلسفية، وهو أمرٌ يحوج إلى ضرورة إعادة النظر في هذا العلم، نحن الآن لمّا نتحدث يا سيدي عن الفلسفة كمصطلح عام ونتحدث عن شهادة تسمى الـPHD  (Philosophy High Degree)، نحن نتحدث عن علم الفلسفة الذي هو أمّ العلوم، فتحته الطب وتحته الهندسة وتحته الشريعة وتحته العلوم التطبيقية وتحته، هذا يحيجنا فعلاً أن نُعيد النظر في هذه المادة التي لمّا ترجمها المسلمون، وأنا أشكر الدكتور صلاح على معانيه، وأشكر الدكتور خنجر على هذا التنويه لما كان من إبداعٍ في القرن الرابع وما بعده لعلومٍ من أبناء الإسلام والعروبة ملأت الدنيا نوراً وعلماً، أقول نحن بحاجة إلى أن نُعيد هذه النظرة. أنا لا أقبل أبداً أن نكون أمة استهلاكية نستهلك ما عند اليابان والكوريتين وعند الغرب، هذا ممّا يعيب، والاستهلاك ليس استهلاك الأجهزة فقط يا أستاذ إنما هو في الفكر.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد السلام، عندما قتلنا التفكير في العالم الإسلامي واستبدلناه بالتكفير، لا يمكن مُطلقًا أن نتحدث عن عقلانية وفلسفة إسلامية.

أختم معك دكتور خنجر. بإيجاز شديد وفي كليمات مختصرات، هل لدينا اليوم، أي سنة 2015، نتاج فلسفي إسلامي بنى على القديم أو يا سيدي انطلق من جديد، لا يهم، هل لدينا ملامح مدرسة فلسفية إسلامية معاصرة؟

 

خنجر حمية: للأسف لا يوجد، ليس فقط في الفلسفة، إنما مثلاً في الكلام أو اللاهوت، بعد جهد محمد عبدو سنة 1901 بكتابه “رسالة التوحيد”، هذا الكتاب الذي قامت الدنيا ولم تقعد لأجله، لا يوجد جهد كلامي يُعتَدّ به في العالم العربي الإسلامي، ولا جهد فلسفي.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور خنجر، الحلقة وصلت إلى تمامها. لا يوجد عندنا علم كلام ولا يوجد عندنا فلسفة إسلامية. ماذا عندنا؟ عندنا التكفير والقتل والسلخ والذبح.

مشاهدينا، دكتور خنجر حمية شكراً جزيلاً لك، أمتعتنا، الدكتور عبد السلام راجح شكراً جزيلاً لك، الدكتور صلاح الدين عبد الله شكراً جزيلاً لك.

مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها. إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

 

                     
السابق
تلخيص درس التحولات الاقتصادية الكبرى في الجزائر 2 ثانوي
التالي
من هي كريمة بنيعيش ويكيبيديا

اترك تعليقاً